«لا حرب بدون ضحايا»، إنها مقولة لازمة لأي نزاع مسلح، والضحايا يختلفون بين قتلى ومعطوبين في ميدان القتال، وخائفين اختاروا اللجوء على الموت برصاصة لا يتعدى ثمنها أورو واحد، هي الوضعية نفسها التي تتكرر الآن في شمال مالي منذ سيطرة الجماعات الإسلامية المتشددة على المنطقة منذ عام تقريبا، إلى أن تدخلت القوات الفرنسية على خط هذا الصراع وبدأت عمليات عسكرية واسعة منذ شهر فاقمت من الأوضاع فزاد القتلى وزاد عدد النازحين. إنهم مجموعة من الفارين من الجحيم، بعضهم اختار اللجوء إلى أقرب دولة، غير أن أعدادا مهمة حطت بهم لعنات الحرب في غابة «سيدي معافة» بمدينة وجدة. مفتاح الغابة مسالك الغابة كثيرة بعدد مجموعات المهاجرين الذين يتخذونها مأوى، كان لزاما لبلوغ مكان استقرار المجموعة المالية المرور بعدة ترتيبات وضوابط، وربما غابة «سيدي معافة» الغابة الوحيدة في المغرب التي لا يسود قانونها، فهنا تقاليد وأعراف أخرى وقوانين تحكمها بصرامة قل نظيرها، وإذا كنت صحفيا يحتاج الوضع إلى ترتيبات وإجراءات إضافية، وربما الاتصال المباشر ب»الشرمان» (قائد المجموعة)، مهمة ليست بالسهلة فالتفاوض معه يشبه إلى حد كبير التفاوض مع زعيم سياسي، يمكن أن يراوغ في أية لحظة ليضمن الاستمرار لمجموعته ويحاول قدر المستطاع إبعاد أي خطر محدق بجماعته، وإلا فقد الزعامة. بدأ اليأس يدب في النفوس وعندها تذكر مرافقنا الحقوقي أن هناك شخص يمكن أن يربط الاتصال ب»الشرمان»، شاب مالي يدعى دياكاري بوديوكو يحضر الدكتوراه بكلية الحقوق بوجدة ويحظى عند الماليين بالتقدير والاحترام، لحسن الحظ أن دياكاري وصل لتوه من الرباط في زيارة عمل إلى وجدة، بدون تردد قرر أن يتجاوب مع طلبنا بربط الاتصال «بالشرمان» والتفاوض معه بالنيابة حتى يسمح لنا بزيارة المخيم، لكن هاتف زعيم الجماعة ظل يرن دون جواب. أخذ التوجس يأخذ مكانه شيئا فشيئا، حتى تحول في لحظة من اللحظات إلى خوف شديد، وبالرغم من الخطورة المحدقة قرر دياكاري المغامرة والتوغل داخل الغابة على أمل أن نحظى بالقبول. صفارة الإنذار بعد السير زهاء ساعة وسط الغابة، وعلى بعد 500 متر من مخيم الماليين بدأ كلب يشبه كثيرا الكلاب البوليسية الألمانية في النباح، لم يهدأ نباحه رغم محاولة الإبعاد التي باءت بالفشل، فهمنا من دياكاري أن الكلب وضع خصيصا في ذلك المكان لإطلاق إنذاراته وإعلام السكان بزوار غرباء عن الغابة، طريقة مبتكرة من المهاجرين لضبط كل التحركات في محيطهم حتى يتخذوا كل الاحتياطات اللازمة. هنا المخيم بعد الوصول إلى المخيم وجدنا عددا من الخيم البلاستيكية المنتشرة في كل الاتجاهات، مسجد يحفظ الإيمان، وحمام مغطى بالأغطية لقضاء الحاجة، وفناء يتخذ مركزا لتبادل الأحاديث بين أعضائه والتداول في شؤون المجموعة، لا أحد كان في المخيم وهذا بحد ذاته أمر يدعو إلى القلق، كل شيء هنا مبعثر، أواني منزلية، قنينات المياه ورماد ينبعث منه دخان خافت، اعتقدنا للوهلة الأولى أننا أمام مقلب كما يحدث في حرب العصابات، حيث يعتقد العدو أن خصمه انسحب من المعركة قبل أن يفاجئه المقاتلون من كل حدب وصوب، في هذه اللحظة رفع دياكاري هاتفه وعاود الاتصال «بالشرمان»، لينطلق حديث لم يدرك الجمع أي كلمة منه، عرفنا أنها لغة محلية في مالي وهي إحدى اللغات الإثنى عشرة التي يتقنها دياكاري إلى جانب الفرنسية والإنجليزية، وفي ترجمته لما دار بينه وبين «الشرمان» جاءنا بالخبر المفاجئ «الماليون نزلوا من الغابة وجميعهم التحقوا بالمقاهي المنتشرة بمحيط جامعة محمد الأول لمتابعة مقابلة كرة القدم، التي جمعت بين منتخبهم الوطني ومنتخب الكونغو، برسم اقصائيات كأس إفريقيا لسنة 2013». إنها الحرب يا صديقي انتهت المقابلة بتأهل مالي إلى الدور الثاني، وبدأ الماليون يلتحقون تباعا بالمخيم، في هذه الأثناء كان «الشرمان» قد أخذ فكرة متكاملة عن الغرض من الزيارة، «ربما تأهل المنتخب هو ما سيسهل لنا مقابلة بعض المهاجرين الذين غادروا مالي مؤخرا» يقول دياكاري، قبل أن تصدق تخميناته ويسمح «الشرمان» بمقابلة بعضهم لنا، «إنها الحرب يا صديقي» بهذه العبارة اختار «سنغوكو» ذي 28 ربيعا أن يجيب عن سؤال حول سبب تواجده في غابة «سيدي معافة»، لم تمنحه الحرب الدائرة في بلده الكثير من الوقت للاختيار بين البقاء والرحيل، فقرر الابتعاد إلى أبعد نقطة، «سنغوكو» يستطرد في الحديث وتقاسيم وجهه تشير إلى غضب شديد مما يحدث، وبالرغم أنه من نواحي العاصمة «باماكو» إلا أن هول ما يسمعه من اشتباكات في الشمال كان دافعا كافيا لينطلق في رحلة مجهولة إلى المغرب. حنينه إلى عائلته التي تركها تواجه المصير المجهول لم يمنعه من تكرار عبارة «تركت العائلة بخير والحمد لله» كأنما يمنح لنفسه جرعات زائدة من الأمل بالعودة وعائلته لم يمسسها مكروه، قبل أن يباغته زميله محمد ورفيقه في الرحلة بحديث اندفاعي «أنا أيضا هربت من هذه الحرب القذرة»، محمد يظهر إيمانا مختلفا، كل كلماته مقترنة باسم الجلالة الله، حتى عندما حدثه أحد الزملاء بإحدى المستملحات التي تخص ضباطا عسكريين إفريقيين درسوا بالمغرب رسم ابتسامة عريضة على وجهه مقترنة بعبارة «الله اكبر». هروب من النزاعات المسلحة أرجع يوسف شملال، المشرف على مركز تقديم المساعدة للاجئين وطالبي اللجوء بوجدة، وهي المؤسسة التي أحدثت بشراكة بين المنظمة المغربية لحقوق الإنسان بالمغرب والمفوضية الأممية لشؤون اللاجئين، أسباب لجوء الماليين إلى دواع أمنية وسياسية تمر بها البلاد، وأضاف بأن « النزاع الحاصل الآن في مالي بلا شك له تداعيات سلبية، وهذا يلاحظ بشكل جلي في أعداد اللاجئين المتزايد باستمرار». نفس الرأي تقريبا عبر عنه حسن عماري، عضو اللجنة المركزية للهجرة واللجوء بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الذي أكد أن هناك تشابها بين وضعية المهاجرين الماليين والكونغوليين والقاسم المشترك بينهما أن 80% منهم هربوا من النزاعات المسلحة، قبل أن يضيف «خلال آخر زيارة لي إلى الجزائر منذ شهر تقريبا رصدت رفقة حقوقيين جزائريين أعددا كبيرة من اللاجئين الماليين في الجزائر خاصة في تلمسان ومدينة مغنية المتاخمة للحدود المغربية، ومعظمهم هرب من مدن تشهد الآن الحرب كتومبوكتو وكاو». مسالك الرعب «سنغوكو» و»محمد» قدما إلى المغرب منذ شهر تقريبا مع بداية الغارات الفرنسية، وصلا عن طريق موريطانيا، وهو المنفذ الذي يمكنهم من النزوح بأقل الأضرار، خاصة أمام التحركات العسكرية التي تقوم بها الجزائر في الجنوب بحثا عن مقاتلين ينتمون إلى القاعدة بعد عملية «عين أمناس»، هذا المسلك واحد من اثنين يسلكه كل هارب من مالي، ويبقى الأخطر دائما هو «مسلك تيزاواتي في اتجاه عين صالح وعين أمناس» يؤكد حسن عماري. رحلة سنغوكو وزميله استغرقت أسبوعا كاملا، بين راجلين وراكبين، إلى أن وصلا إلى مدينة الداخلة المغربية ومن ثمة عبروا شيئا فشيئا إلى أن التحقوا بزملاء لهم في المخيم بوجدة والذي يضم 25 ماليا منهم من قضى به أكثر من 7 سنوات. مسالك الموت هذه تثير الرعب في نفوس الهاربين، «وضعية تمنح نشاطا زائدا للمافيا والمجموعات المتاجرة بالبشر» يقول شملال قبل أن يضيف «هذه المجموعات الإجرامية تنتعش أمام وجود اللا استقرار، وترفع من عملياتها مع نزوح المزيد من اللاجئين الذي ينعش الحركة على الحدود». حرب هناك وحرب هنا دياكاري بوديوكو، الذي تحدث بلسان الباحث في الهجرة واللجوء، يعتبر بأن مدينة وجدة والمغرب عموما يشكل بالنسبة للمهاجرين غير النظاميين بلد عبور فقط، لأن هؤلاء يبحثون عن ظروف عيش أفضل تضمن لهم الاستقرار والمغرب لا يضمن ذلك، بدليل أن 95% من المهاجرين يستقرون في الغابة في ظروف صعبة، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وفي أحسن الأحوال ينشئون خياما من البلاستيك لتقيهم قساوة المناخ و»الاستقرار في الغابة ليس استقرارا في غياب إمكانية الحصول على فرص عمل تضمن لهم المأوى والمأكل والملبس والحصول على العلاج» يقول دياكاري. معاناة حقيقية يعيشها هؤلاء المهاجرين الفارين من أوضاع اقتصادية وأمنية جد صعبة، فبدءا من قطعهم لأزيد من 3000 كلم للوصول إلى المغرب سواء عن طريق موريطانيا أو الجزائر، يتعرضون للمطاردات والتوقيف من قبل حرس الحدود والاعتداءات الجسدية وسرقة الممتلكات البسيطة من أموال، هواتف نقالة... من قبل «لبانضية» -حسب تعبير دياكاري- والذي يقصد بهم «قطاع الطرق» خصوصا في منطقة مغنية الجزائرية، ليصطدموا بعد التمكن من عبور الحدود والدخول إلى المغرب بصعوبة العبور إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، فيضطرون إلى التواري عن أنظار السلطات الأمنية بالغابة وتحين الفرص لتحقيق المبتغى. وهنا تبدأ رحلة البحث عن القوت اليومي، وأمام انعدام فرص العمل بالنسبة لهم يلجؤون إلى بسط اليد والاستجداء لسد الرمق، وهي رحلة لا تخلو بدورها من صعاب أمام الحملات التي تقوم بها بين الفينة والأخرى قوى الأمن لترحيل الموقوفين منهم، وحسب المنظمات الحقوقية التي التقينا بها فإن الترحيل يشمل حتى الأشخاص الذين يتوفرون على بطاقة لاجئ من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وهو الأمر الذي نفاه مسؤول أمني وأوضح بأنهم يقومون بالتدقيق في هذه المسألة ويربطون اتصالات مع فرع المفوضية بالرباط، ومع مركز تقديم المساعدة للاجئين بوجدة للتأكد من صحة البطاقة وإذا ثبت أنها تعود لحاملها فلا يتم ترحيله. نفس المسؤول الأمني أكد بأنهم يتعاملون بمرونة مع بعض الحالات عندما يتعلق الأمر بامرأة حامل أو شخص قاصر، أما باقي الحالات فالواجب والمسؤولية تقتضي التدخل من أجل الترحيل. أرقام متحركة عند الدخول إلى مدينة وجدة عكس باقي المهاجرين مثل النيجيريين، الذين يقصدون مدينة الناظور وبالضبط «غابة غوروغو»، فالماليين في حركتهم الداخلية يختارون 3 مسارات رئيسية بعد مدة من الاستقرار في غابة «سيدي معافة» الأول باتجاه فاس ومكناس، والثاني في اتجاه الرباط والدار البيضاء، فيما الثالث يكون إلى الشمال باتجاه طنجة، وهي حركة -بحسب حسن عماري- يصعب معها إحصاء أعدادهم واللاجئين منهم، غير أن يوسف شملال الذي قدم المساعدة للعشرات من المهاجرين بالمركز الذي يشرف عليه حاول تقريب الأرقام، فعلى مستوى المفوضية السامية هناك ارتفاع ملحوظ للمهاجرين الذين وضعوا طلبات اللجوء خلال سنة 2012 حيث انتقل عددهم من 4 لاجئين إلى أزيد من 80 لاجئا في ظرف قياسي والعدد مرشح للارتفاع «مع نزوح أزيد من 1700 لاجئ جديد إلى مدينة مغنية الجزائرية». غياب النساء الملاحظ، وهو ما يؤكده المهاجرون أنفسهم وباقي المتابعين، أن الماليين يتميزون بغياب العنصر النسوي بينهم في المخيم، وهو غياب يربطه دياكاري بموانع ثقافية بحتة وهي نفسها الموانع الثقافية التي منعت علينا تصوير المجموعة ليلا. (*) استطلاع أنجز في إطار دورة تكوينية بوجدة حول «الصحافة المستقلة»