عرفت الخريطة السياسية للمغرب خلال العقد الأول من هذا القرن تحولات نوعية سواء من حيث القوى السياسية الفاعلة أو من حيث طبيعة التحالفات وآليات الصراع وأشكال العمل السياسي وأنماط الخطاب؛ وهي تحولات عميقة إن لم يع اليسار المغربي ، وفي مقدمته الاتحاد الاشتراكي طبيعتها ودلالاتها فإنه سيكون عاجزا عن إبداع خطاب سياسي مطابق واستراتيجيات عمل ناجعة تمكنه من استرجاع زمام المبادرة ودور القيادة التاريخية لنضال الشعب المغربي من اجل الديمقراطية والتنمية العادلة. من ابرز تلك التحولات تبوئ حركة الإسلام السياسي، ممثلة في حزب العدالة والتنمية، صدارة المشهد السياسي من خلال اكتساح انتخابي لا مراء فيه، مكنها من قيادة حكومة من أهم مكوناتها حزبيين كانا إلى الأمس القريب ضمن الكتلة الديمقراطية إلى جانب الاتحاد الاشتراكي الذي اختار موقع المعارضة بعد ثلاثة عشر سنة من المشاركة في تدبير الشأن العام؛ وذلك في إطار برلمان متقدم. فبقيام حكومة التناوب الثاني، انتهى عمليا زمن التوافق ومعه مرحلة الانتقال الديمقراطي ، وأصبحنا أمام خريطة سياسية جديدة بتصارعها قطبان أساسيان يحمل كل منهما مشروعا مجتمعيا على النقيض من مشرع وع الآخر: مشروع قوى رجعية محافظة تقوده العدالة والتنمية وتقتسمه معها جل الحركات الاسلاموية بالمغرب على اختلاف تلويناتها، ومشروع ديمقراطي حداثي يتبناه اليسار على اختلاف اتجاهاته. وللمشروعين معا امتداداتهما الثقافية والاجتماعية، مما يمنحهما الشرعية والسند الشعبي.على مستوى الواقع، ليست الصورة على هذه الدرجة من الوضوح، لأننا في الحقيقة ما زلن نعيش بداية فرز سياسي جديد ومرحلة لا تخلومن لبس، من أهم تجلياته وجود حزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية في حكومة يقودها حزب محافظ ، وفي المقابل تواجد أحزاب يمينية وأخرى يسارية في المعارضة مع اختلاف في الاختيارات وفي دواعي الاختيار.إن من شأن احتدام الصراع الاجتماعي والثقافي في ارتباطاته الجدلية بتغير المواقف السياسية، أن يعيد ترتيب الأوراق وتعديل الخريطة السياسية، لكن من المؤكد أن الصراع الأساس سيستمر بين معسكر الحداثة والديمقراطية ومعسكر التقليد والمحافظة، وبالتالي فإن اختلال موازين القوى لفائدة هذا المعسكر أو ذاك سيحسم في تشكل مغرب المستقبل بالرغم من ثقل المؤسسة الملكية ووزنها داخل النظام السياسي المغربي. كل المؤشرات الراهنة تدل على اختلال موازين القوى لصالح معسكر التقليد والمحافظة التي استطاعت من خلال خطاب أخلاقي -جعل من الدين مرجعه، ومن بؤس الناس وأميتهم السياسية سنده، ومن الفساد السياسي والاقتصادي مطيته ووجد في الربيع الاسلاموي نموذجه -، استمالة جزء غير يسير من الرأي العام، في زمن فقد فيه الخطاب اليساري التقدمي توجهه وتراجعت فيه قيم العقل وثقافة التنوير تحت وطأة البؤس المادي والاجتماعي والاستبداد السياسي والفساد المؤسساتي والعنف الرمزي للفضائيات الملتحية. لكن، مازال للمشروع الحداثي التقدمي مشروعيته التاريخية والاجتماعية وما زال من ورائه فات اجتماعية واسعة تسنده وعلى استعداد للدفاع عنه وحمايته ونصرته، فضلا ?ن كونه المشروع الوحيد القادر على الارتقاء بالوطن إلى مصاف الدول المتقدمة ديمقراطيا وتنمويا، فكرا واقتصادا وسياسة. وعلى كل حال ، وبعيدا عن كل حتمية تاريخية ، فإن انتصار هذا المشروع أو ذاك رهين بالجهد النضالي لكل طرف وقدرته على إقناع الناس بمشروعه باعتباره مشروعا مجتمعيا شاملا، يلبي طموحات السواد الأعظم من الشعب في العيش الكريم كما يراها الشعب نفسه. يتعلق الأمر إذن، بصراع في جوهره فكري واجتماعي وفي ظاهره سياسي وانتخابي. فهل يستطيع الاتحاد الاشتراكي وأحزاب اليسار،ومن حولهم قوى الحداثة والتنوير على المواجهة وربح الرهان؟ قد يستطيع لاعتبارات تاريخية وأخرى اجتماعية وثقافية، لكن هناك شروط أولية لابد منها، في مقدمتها من وجهة نظرنا: - بلورة اختيارات سياسية واضحة لا مجال فيها للبس أو التردد، ومن أهمها النضال من أجل ملكية برلمانية حداثية، والتبني الواضح لإستراتيجية النضال الديمقراطي التي تعتبر الاحتكام إلى الإرادة الشعبية عبر صناديق الاقتراع ركنها الأساس، - طي صفحة الماضي وما عرفه من صراعات وتناقضات وانشقاقات، أنهكت اليسار برمته والاتحاد الاشتراكي خاصة ، والعمل من أجل التوحيد العقلاني والتدريجي لقوى اليسار على قاعدة الاختيارات المحددة سلفا، _ الانفتاح على كل القوى والنخب الحداثية والديمقراطية في كل مجالات الحياة الثقافية والابداعية لتسهم من موقعها المتميز والنافذ في مواجهة الثقافة التقليدانية وقيمها الماضوية. _ الارتباط الكفاحي بنضالات الشعب المغربي ضد الاختيارات اللاشعبية للحكومة اليمينية التي اختارت أن تدبر الأزمة الاقتصادية التي يعاني منه بلدنا على الطريق الساركوزية ، اي على حساب الفئات الفقيرة والمتوسطة. وهي مهام نعتقد أن الاتحاد الاشتراكي، بحكم وزنه الاجتماعي والسياسي، مسؤول تاريخيا على تفعيلها من خلال مبادرات ملموسة ، وكل تثاقل أو ارتباك في ذلك قد يكرس أزمة اليسار التي هي التحليل الأخير أزمة الاتحاد