يقوم «المجلس القومي للمخابرات» المعروف اختصارا ب «إن آي سي» في الولاياتالمتحدة بإعداد الدراسات الاستراتيجية الطويلة المدى. و منذ إنشائه سنة 1979، عمل ال «إن آي سي» كجسر رابط بين المخابرات و بين صانعي السياسة في الدولة، و بذلك يُعتبر مصدرا للخبرات العميقة في مجال المخابرات، و مسهلا للتعاون بين أجهزة المخابرات و المقررين السياسيين. و يعمل ال «إن آي سي» على إصدار تقارير دورية حول بعض القضايا الخاصة أو الكونية و تمتد على مدى طويل من السنوات المقبلة. و من هذه التقارير، التقرير الأخير الذي أصدره في دسمبر 2012 و الذي غطى فيه عددا من قضايا العالم حتى العام 2030 و عرض فيه توقعاته لمساعدة أصحاب القرار في الولاياتالمتحدة و في العالم. يبدأ التقرير بالاستشهاد برواية «قصة مدينتين» للكاتب الانجليزي «تشارلس دسكنز» الذي اتخذ من الثورة الفرنسية وبزوغ فجر العصر الصناعي خلفية تاريخية لروايته. فيقول «نحن اليوم نعيش تقريبا تحولات شبيهة بتلك الفترة، و من المنتظر أن تعطينا تطورات ?جيدة و سيئة ? شبيهة بما أنتجته الثورات الاقتصادية و السياسية للقرن الثامن عشر، و يستشهد بأحد مقاطعها كالتالي : «كان أفضل الأزمنة و أسوئها...كان ربيع الأمل،وشتاء اليأس...كنا متجهين جميعنا نحو الجنة، كنا متجهين جميعنا نحو الجحيم» يتوقع التقرير أن لا يزداد فقر معظم سكان العالم و أن تتوسع الطبقة الوسطى في معظم البلدان. كما يتوقع أيضا تحولا في القيم داخل أفراد الطبقة الوسطى مع نزوع أكبر نحو الاعتزاز بالهويات الدينية و الإثنية و القومية. بيد أن هذه الطبقة الوسطى لن تشعر بالأمان: سيزداد حوالي مليار عامل من البلدان النامية إلى الطبقة العاملة، مما سيضيف ضغطا آخر على صانعي القوانين خاصة في مجال قانون الشغل. و في مجال الدمغرافيا يقول التقرير أن الارتفاع السريع للأمل في الحياة و انخفاض الوفيات الناتجة عن الأمراض المعدية بنسبة تفوق 40 بالمائة، سيشكلان عاملا مهما في ارتفاع عدد السكان خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء و جنوب آسيا، التي ستعرف ارتفاعا كبيرا في فئة الشباب من سكانها. فيما ستواجه البلدان «الهرمة» إمكانية تدهور نموها الاقتصادي. و من المتوقع أن يرتفع معدل الهجرات نحو البلدان الصاعدة، فيما يتجه معدل التمدن إلى 60 بالمائة تقريبا. و بخصوص توزيع القوى في العالم يقول التقرير أن آسيا تتجه نحو تجاوز أمريكا الشمالية و أوربا في القوة الاقتصادية العامة، و لن تكون هناك أي قوة مهيمنة رغم ارتفاع قوة دول غير غربية أو متوسطة. هذه الدول المتوسطة ستفوق في قوتها كلا من أوربا و اليابان و روسيا. بينما سيفوق الاقتصاد الصيني نظيره الياباني ب 140 بالمائة، و ستفوق الهند اقتصاد باكستان ب 16 مرة، في حين ستشكل التكنولوجيا الرافعة الأساسية التي ستحول ميزان القوى نحو الشبكات متعددة الأوجه. الطاقة و الماء و الغذاء: و يتوقع التقريرأن يرتفع الطلب على الموارد الطبيعية تبعا لارتفاع السكان الذين يبلغ تعدادهم حاليا 7,1 مليار نسمة و الذين سيصبحون في العام 2030 ما يقارب 8 ملايير نسمة. و هكذا سيرتفع الطلب على الغذاء ب 35 بالمائة و على الطاقة بحوالي 50 بالمائة خلال الخمسة عشر أو العشرين سنة القادمة.كما سيعيش نصف سكان العالم في مناطق تعيش خصاصا مائيا كبيرا.و من البلدان الهشة التي تعاني نقصا في هذه الموارد توجد الهند و الصين، إلا أن السؤال المطروح حاليا هو كيفية مواجهة هذا النقص بواسطة استخدام واسع للتكنولوجيا أو من خلال تدبير محكم أو بواسطة آليات حكامة جيدة. و يخلص التقرير إلى أن الدول المتقدمة و الدول النامية معا تواجه نفس التحديات تقريبا. فبالنسبة لمعظم دول الغرب يتمثل التحدي في التحكم في النمو في مواجهة الشيخوخة المتسارعة لسكانها، بينما يشكل التحدي بالنسبة للصين و الهند في تفادي «عثرات المعدلات الوسطى» أمام التحولات السياسية و الاجتماعية السريعة، فإن البلدان المنتقلة من الاستبداد إلى الدمقراطية تعيش لااستقرارا كبيرا. و تقع 50 دولة في العالم ضمن هذه الفئة، و من الممكن أن تعيش جميعها نفس التجربة حتى 2030 إذا استمر التقدم الاقتصادي بهذه الوتيرة. و نظرا لتناقص الموارد الطبيعية بشكل غير متناسب مع تزايد السكان ? خاصة في جنوب الصحراء و جنوب آسيا و أجزاء في الشرق الأوسط ? فإن مخاطر النزاعات داخل الدول ستزداد، كما أن انتشار السلاح من شأنه أن يغير طابع بعض النزاعات الحالية. و من المتوقع أن يظل الشرق الأوسط المنطقة الأكثر خطورة، رغم توجهها نحو دمقرطة أكبر.كما أنه من المحتمل أن أي حروب مستقبلية في آسيا أو الشرق الأوسط قد يُستخدم فيها السلاح النووي. و كثير من هذه النزاعات، إذا ما اندلعت، ستكون لها عواقب و آثار عامة من العسير تطويقها. و من المتوقع أن تظل الولاياتالمتحدة على رأس الدول الكبرى في سنة 2030 بسبب الطبيعة متعددة الأوجه لقوتها و لقيادتها، إلا أن «لحظة القطب الوحيد» التي عاشتها في فترة سابقة قد ولت. فيما تبدو إمكانات الصين محدودة للحلول محل الولاياتالمتحدة كقائدة للعالم في 2030. فإذا ما استعاد الاقتصاد الأمريكي قوته ? باستقلال محتمل في مجال الطاقة ? فإن من شأن ذلك أن يدفعه إلى التغلب على التحديات، أما إذا أخفق في ذلك فإن فراغا كبيرا و خطيرا في قيادة العالم سيحدث. و بخصوص سيناريوهات المستقبل يبدو أن الولاياتالمتحدة و أوربا غير قادرتين و لا راغبتين في قيادة العالم. فالفساد و الأزمات الاجتماعية و الأنظمة المالية الهشة و النمو البطيء للبنيات الفقيرة المزمنة في بلدان العالم النامي و تطويق البلدان المتقدمة لنفسها لمنع تنقل البشر و السلع من الدول الفقيرة إليها من شأنه أن يمدد الأزمة. و إذا كان الأمر قد تطلب من بريطانيا 155 عاما كي تضاعف الناتج الداخلي الخام للفرد، بتسعة ملايين نسمة سنة 1870 ، وتطلب الأمر نفسه من ألمانيا و الولاياتالمتحدة ما بين30 و 60 سنة مع ساكنة ببضع عشرات من الملايين، فإنه بالنسبة للهند و الصين يسير بوتيرة و خطى لا مثيل لهما: فبساكنة تفوق مائة مرة سكان بريطانيا تمكنت من مضاعفة الدخل الفردي الخام خلال عُشُر المدة التي أنجزتها خلالها بريطانيا و في سنة 2030 ، فإن الأغلبية في معظم البلدان ستكون من الطبقة المتوسطة، و ليس الفقيرة، و هو ما كان دائما في الدمغرافيا العالمية. و من جهة أخرى، يتوقع التقرير إضافة 65 مليون نسمة كل سنة إلى ساكنة المدن في العالم، و هو ما يعادل سبع مدن كبرى من حجم شيكاغو أو خمس مدن من حجم لندن سنويا.