-I- كلما جمعتنا مجالس القصوف على هامش لقاء ثقافي أو جلسة دراسية، لم يكن أحد أصدقائنا مِمَّن نتقاسم وإياهم هموم المجايلة والبحث الأدبي واجتراح الحياة، يتحفظ في البوح الجهير الملون بقدر من التباهي السافر، بأنه عازم على تبوؤ صدارة المشهد النقدي وانتزاع لقب «كبير النقاد المغاربة» في غضون عشر سنوات أو أكثر بقليل. ولو أن تصورا من هذا القبيل يجد منبته في منطق نقدي عتيق يقوم على معايير السبق والموازنة والمفاضلة و»الفحولة» بين الأسماء والنصوص، فإن صديقنا الناقد، ومذ اختط لمساره هذا «الهدف المرقم، قبل عقد من الزمن «، لم يتوان في تكثيف الأبحاث والمتابعات النقدية، وتنويع المشاركات في الندوات العلمية، وتوسيع التحالفات والولاءات هنا وهناك... لعل وعسى. لست أدري اليوم مدى أهمية أن نعرف، بعد أن ناهز هذا «الهدف المرقم» سقفه الزمني، هل حالف النجح صاحبنا في التربع على «طوب- طين» النقد المغربي بلا منازع أم لا، ولكن الأجدى في تقديري أن نتلمس بعض عناصر الجواب حول سؤال أكثر عمقا وتعقيدا، نصوغه كالتالي: أمازال النقد بالمغرب يصنع «المطر والصحو» في المشهد الأدبي والإبداعي؟ وهل تتمتع، إلى اليوم، هذه المؤسسة الثقافية التي تعنى بجانب من «الإنتاج الرمزي» الوطني، بتلك السلطة التي استطاعت عبرها فيما ما مضى أن تفرز ما يشبه «رأيا عاما» أدبيا وفنيا في صفوف النخب وجمهرة المتعلمين ؟ بالعودة إلى المنجز النقدي المغربي، خاصة ما تحقق منه خلال عقود الهزيع الأخير من القرن الماضي، سنلفي أن النقد شكل قنطرة أساسية للأعمال والتجارب نحو تكريس الاعتراف بها وانتمائها إلى «المجموعة الأدبية»؛ بحيث يبشر بتخلق الأصوات الأصيلة والمتفردة بقدر ما ينبه إلى الفقعات والظواهر الملتمعة التي سرعان ما تخبو جذوتها. يصمت عن نصوص كما يعلي من شأن أخرى، ولو أن الأحكام التي كان يصدرها في هذا الصدد، غالبا ما تعالق طيها العلمي بالإيديولوجي والجمالي بالأخلاقي. -II- من المؤكد أن سوق الكتابة والنشر على مدى العشر سنوات الأخيرة قد تميز بفورة متنامية في مجال التأليف النقدي بمختلف مستوياته ووسائطه؛ من كتب مونغرافية ودراسات وبحوث ومقالات وأعمال ندوات تغطي جملة الأجناس الأدبية والفنية والأشكال التعبيرية، فضلا عن النشاط الترجمي الذي ظل باستمرار أحد روافد الممارسة النقدية المغربية منذ الثمانينيات من القرن الماضي، بل قبل ذلك بكثير. ولكن هذا التراكم الذي أنتجه بالخصوص جيل جديد من النقاد ظل يتأرجح بين الدرس الأدبي العالم والأكاديمي والفعل النقدي بحصر المعنى، دون أن يستطيع أن يعلن عن هوية وحدود وتسمية تمسح أو تنسحب على هذا المنجز بكامل تحققاته؛ إذ يُنظر إليه باعتباره مؤشرا على كيان رخو ما يزال في صيرورة «الانوجاد» والتطور «work in progress»، ووعي عبوري من جسد نقدي مغربي واضح المعالم والتوجهات والتيارات بدءا من الستينيات، إلى وعي جنيني ما فتئ يتخلق ويتشكل مع منتصف التسعينيات من القرن الماضي. لا أعتقد أن الدفع بسؤال الجيل والمجايلة وتشبيب النخب النقدية، هو المدخل الوحيد لتأكيد وجود تحولات طفرية في مشهدنا النقدي، وتسويغ ما ينتظمه من دينامية وتجديد محتملين على مستوى النظر والتصور وأدوات المقاربة. إن محمول «جديد» اقترن في تاريخ الأدب والفن بمختلف التصورات والحركات التي أحدثت قطائع أو خلخلت على الأقل نظريات وآليات الإنتاج والتلقي الجماليين. فهل «الجدة»، بما تحمله من معاني الإضافة والإغناء والتطوير والتثوير أيضا، قيمةُ لازمة نووية داخل التراكم الذي حققته هذه التجارب النقدية الموسومة ب»الجديدة»؟ ذلك أن الشباب ليسوا حتما قتلة للأسلاف والآباء، بل قد يكتسون بجبة «المريد» الذي يعيد إنتاج نموذج ونمط الشيخ أو القطب، وينتصر لمنطق التكريس والامتداد لا القطيعة والتغيير. لقد بدأ الحديث في الأوساط النقدية الغربية منذ مطلع الألفية الثالثة عن تحدي بنيوي وهوياتي غدا يهجس المنظرين والباحثين والنقاد عن مآل الدرس الأدبي والممارسة النقدية في غياب أي أفق بحثي جديد خارج سلطة النظريات والأدبيات والمناهج التحليلية الموروثة من القرن الماضي. وبالتالي، فإن رهان الجدة والتطويع ليس هاجسا محليا أو قطريا يخص المشهد النقدي المغربي فحسب. -III- العديد من النصوص الإبداعية اليوم، وبحكم التحول الذي طرأ على قيم وسائط التواصل والتلقي، والخلخلة المطردة التي ما فتئت تمس الكتابة في ماهيتها وجدواها، لم تعد في حاجة إلى النقد لكي تصل إلى قارئها، أو تقتطع لأصاحبها موطئ قدم داخل «المجموعة الأدبية». النقاد أيضا، انشغلوا عن النصوص والأعمال الأدبية، وانصرفوا إلى الانخراط في أوار المجتمع ورصد أسئلة اللحظة التي توجه الاهتمام صوب نصوص أخرى غير الرواية والقصيدة والقصة والمسرحية... ثمة صمت بليغ، اليوم، تشي به الصفحات الثقافية والملاحق الأدبية والمجلات المحكمة، بعد أن تحول العديد من النقاد إلى خبراء واستشاريين لدى مؤسسات الرعاية والدعاية.