مكانة الدين في الدستور المغربي الجديد أشرت في المقال السابق إلى أنّ الدستور المغربي الجديد يتضمّن عشر إحالات إلى الدين يمكن تصنيفها في ثلاث مستويات تهمّ أوّلا السلطة الملكية كنظام، ثمّ تدبير الشأن الديني أو سياسات الدين العمومية، و أخيرا مستوى ثالث يخصّ المغاربة في انتظامهم المجتمعي. و أكّدت خطأ التّفكير في سؤال الدين بنفس المنطق في مجموع المستويات الثلاث المذكورة. يبرز المستوى الثاني موضوع هذه المقالة تدخّل الدولة لتوجيه الفكر و السلوك الدينيين. أو لنقل عنه إنّه يلخّص السياسة الدينية للدولة المغربية. فهي تعمل على تعزيز انتمائها الإسلامي، و لا تقبل التّمييز بسبب المعتقد الديني (ديباجة الدستور)، و تضمن حرية ممارسة الشؤون الدينية (الفصل الثالث). كما هناك مجلس علمي أعلى يتحدّث باسم الدين الإسلامي في كلّ القضايا ذات الموضوع الديني (الفصل 41). كما أنّها لا تقبل بتأسيس أي حزب على أساس ديني (الفصل السابع)، و لا تسمح لأي برلماني بالمجادلة في أمور الدين (الفصل 64)، و لا تقبل أي مراجعة أو تعديل دستوري يمسّ أحكام الدين الإسلامي (الفصل 175). إذا كان المستوى الأوّل المتعلّق بإسلام المغاربة لا يطرح الكثير من الأسئلة باعتباره يصف حالة بلد مسلم و يقرّر أمرا واقعا، و إذا كان بإمكاننا أن نقرّر أنّ الدّولة المغربية قد تبدي أحيانا مواقف أكثر تقدّما ممّا قد يبديه المجتمع المغربي المحافظ في طبعه و ثقافته، فلا مجال أيضا للقول إنّها حسمت في علاقتها بأوامر الدين و أحكامه إذ أنّها تبدي الكثير من التردّدات في هذا المجال. تثير مجموع الفصول المتعلّقة بسياسات الدين ملاحظتين اثنتين. أوّلهما أنّها تروم الحفاظ على الأمن السياسي بمنعها ظهور أي حزب ديني، بضمانها حرية ممارسة الشّؤون الدينية، بتأسيسها مجلسا علميا أعلى يتولّى أمور الدين. أمّا الملاحظة الثانية فتبرز حدود الحرّيات الفردية و العامة عندما تمنع على البرلماني (و بالأحرى المواطن العادي) إبداء رأيه في قضايا الدين، أو عندما تحول دون أي مراجعة أو تعديل دستوري تمسّ حكما من أحكام الدين الإسلامي. صحيح أنّ الدستور المغربي لا يصرّح بالشريعة الإسلامية كمصدر أسمى للقوانين، و تلك نقطة تُحسب له لا عليه، غير أنّ ظلّها يلازم الكثير من حيثيات الدستور. في كتابه «من ديوان السياسة»، يقول عبدالله العروي: «مفهوم أنّ البرلمان، أيّ برلمان، لا يستطيع أن يقرّ أنّ الله موجود أو غير موجود، أنّ الكون متناه أو غير متناه، الخ. الدين، الفلسفة، العلم، الذوق، كلّ ذلك خارج اختصاص البرلمان. اختصاصه تشخيص المصلحة العامة، موكلا مهمة تحديد طرق تحقيقها للحكومة. لكن ما يميّز الدستور الملكي هو أنّه يمنع من التّعرض لمسائل مصلحية واضحة تمّ الفصل فيها مسبّقا.» (لا سبيل هنا للقول إنّ عبدالله العروي كتب ما كتب قبل إقرار الدستور الجديد، ذلك أنّ هذا الأخير لا يختلف عمّا سبقه، إن لم نقل إنّ إحالاته إلى الدين تفوق ما نصّت عليه الدّساتير السابقة) هل يحقّ اليوم لبرلماني ما أن يقترح قانونا يطالب فيه بالتّشريع للزواج المدني مثلا؟ هل يكون بإمكانه أن يطالب بقانون صريح يمنع منعا باتا تعدّد الزوجات بدل التّحايل على ما نصّ عليه الحكم الشّرعي؟ هل مشروع له أن يقترح قانونا يضمن للأنثى الواحدة حظّ الذكر الواحد في الإرث؟ هل يحقّ لفريق برلماني أن يقترح في إطار ما تنصّ عليه القوانين، تعديلا دستوريا يفصل بالواضح بين ما هو ديني و ما هو سياسي؟ الجواب طبعا هو «لا» بمنطوق الفصل 32 الذي يجعل من «الزّواج الشرعي» الأساس الذي تقوم عليه الأسرة، و بمنطوق الفصل 64 الذي يمنع عن البرلماني «المجادلة» في الدين الإسلامي، و بمنطوق الفصل 175 الذي يمنع «مراجعة الأحكام المتعلّقة بالدين الإسلامي». و لكن، لنعد شيئا ما إلى مغرب ما قبل الاستقلال، و»لنتصوّر أن إدارة الحماية فرضت علينا قانون أسرة يمنع تعدّد الزّوجات و يقرّ المساواة في الإرث. و أنّ العمل بهذا القانون طال حتّى تعوّد عليه المجتمع و أصبحت مصالح الكثيرين مرتبطة بتطبيقه. أكبر الظن أن الدستور الملكي كان يحافظ على الأمر الواقع بتخريجة ما. و الدليل على ما نقول هو الحاصل اليوم في الجمهوريات الإسلامية السوفياتية سابقا. لم يحصل فيها تراجع عن إصلاحات البلاشفة، كما لم تتولّ من جديد الحرف العربي لكتابة لغاتها.» (العروي م-س) ألا يوجد الكثير من الأحكام الشرعية التي تمّ إهمالها في صمت و دونما أيّ مشكل؟ من منّا يتحدّث اليوم عن حدود قطع يد السارق أو جلد الزّاني التي تعجّ بها كتب السياسات الشرعية؟ من منّا يتحدّث اليوم عن أحكام الرّق التي لا نزال نردّد الآيات المتعلّقة به؟ لماذا إذن «لا نقول إنّ أحكاما شرعية أخرى يجوز إهمالها إذا لم تعد فائدتها واضحة (...) تعليق حكم شرعي من طرف البرلمان، لا يعني الحكم ببطلانه مطلقا، لا ماضيا و لا مستقبلا، فليس فيه ما يدلّ على تكذيب أو تسفيه أو مروق أو عقوق.» (نفس المرجع)