على الاتحاد الاشتراكي اجتناب الصدامات اللامجدية، وبالتالي لعن المستقبل، طالما بقي نمط الاقتراع الانتخابي ووضع التعدد الحزبي المفرط والتوازنات مع النظام هما على شاكلة ما نعرفه ونراه تقوية الذات عوض الصدامية اللامجدية إن الاتحاد الاشتراكي، وهو في حالة حرجة ومنعطف صعب دقيق ليس مطالبا بالتصدي مثلا لحزب «الأصالة والمعاصرة»، الذي كنا ممن سموه «الوافد الجديد» واعتبروه خطرا على الديمقراطية وعامل إخلال وزعزعة للحقل السياسي وميزان قواه، وكان من باب الحكمة وبعد النظر السياسي أن ننآى عن ذلك النهج الصدامي الاستعدائي غير المنتج، تاركين الحزب المذكور يجرب ديناميته وحيويته، ويضع رهاناته واختياراته على محك الواقع وسيرورة جدلية التاريخ المنظور... أما حزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى السلطة بعد انتخابات 25 نوفمبر 2011، فعلى الحزب وقد اختار المعارضة أن يمارسها ليس فقط عبر فريقه في الغرفتين، وإنما أيضا بواسطة خلية عمل مكونة من العارفين والخبراء (تسمى في البلدان المتقدمة «حكومة الظل»)، قادرة على الإحاطة علما يالمستجدات السياسية والاجتماعية، كما بالملفات الكبرى والقضايا الحيوية الحساسة، وذلك كله حتى تتسم أكثر معارضة الحزب لسياسة الحكومة الحالية وتدبيرها بالنجاعة والحجية والمصداقية، وكذلك مقارباته وبدائله. وهذا يقتضي الانتهاء من نعت «البيجيدي» بالمحافظ والتقليداني أو المستغل للدين، وغير ذلك من النعوت السجالية التي لا تأثير لها ولا طائل تحتها. أما اتهامه بالانتهازية لكونه جنى أو قطف إنجازات ثورات الربيع العربي، كما فعل نظراؤه في بلدان عربية أخرى، فهذا الكلام لا يستقيم، ويطرح على الأحزاب التقدمية الحداثية سؤالا: لماذا لم تكن من التهيؤ ومن الحضور والقوة بحيث تؤول تلك القطوف إليها كلا أو بعضا؟ وعلى أي حال، فإن أعقل موقف يجدر بالاتحاد الاشتراكي أن يقفه هو التشبع بالفكرة الواردة سابقا في أرضية المؤتمر السادس، وهي بالحرف: »لقد خلف التقرير الايديولوجي [للمؤتمر الاستثنائي، 1975] رجة ثقافية كبرى في الوسط السياسي المغربي، لما تضمنه من أفكار شجاعة بخصوص انتمائنا الإسلامي، واشتراكيتنا الرافضة لدكتاتورية البروليتاريا...« وفي ما يخص الشق الأول، يلزم ربط القول بالفعل، فيسعى الحزب لأن يكون له فقهاؤه وخبراؤه في الإسلام دينا وثقافة، فيمهد بهذا السعي لاستعادة ما تيسر من تجذر في «القوات الشعبية» وشرائحها، التي لم تعد في خضم الأزمات المتفاقمة تطلب من السياسة وحتى الديمقراطية إلا تحسين أوضاعها المعيشية وممارسة حقوقها في التعليم والصحة والخدمات... والخلاصة أن الحزب، قيادة وأطرا وقواعد، يحسن به أن يرى في «البيجيدي»، وأيضا «البام» تحديات جدية نشيطة، عليه بالسعي إلى رفعها ليس عبر وسائل المشاحنة والصدام والنفار غير المنتجين، بل بالأولى والأحرى من خلال استفراغ الجهد في تقوية الذات الحزبية وتمكينها من أسباب إعادة ترتيب البيت الداخلي وترشيد تسييره واستعادة الصحة الوافرة والتنافسية الخلاقة؛ وباستيفاء هذي الشروط ضمن أخرى يتسنى له في انتخابات 2013 الجماعية وخصوصا في تشريعيات 2017 أن يكون في مركز ثقل وقوة ليتصدر، كما في 2002، الرتبة الأولى، ويستعيد قصب السبق في نيل أغلبية وازنة في البرلمان وتشكيل حكومة مع فرقاء حزبين آخرين، يختارهم بحسب صلات القرابة الايديولوجية والسياسية، وذلك ما دام نمط تدبير الشأن العام عندنا كُتب عليه طابعا الائتلافية والاختلاطية، وليس هو النمط الأمثل والأنجع كما دلت عليه تجاربنا الحكومية المتعاقبة، كنت شاهد عيان لإحداها، حيث التنافر بين عباس الفاسي وصلاح الدين مزوار مثلا ظل مضمرا وملموسا طوال أربع سنوات إلى أن ظهر أمام الملأ بعيد نهاية الحكومة السابقة المنقوصة ولايتها. وهذا فصل موجع يستدعي أكثر من وقفة، لكن في مقام غير هذا. والمستخلص من كل ذلك أن على الاتحاد الاشتراكي اجتناب الصدامات اللامجدية، وبالتالي لعن المستقبل، طالما بقي نمط الاقتراع الانتخابي ووضع التعدد الحزبي المفرط والتوازنات مع النظام هما على شاكلة ما نعرفه ونراه. نحو تغييرات دالة تبعا لعوامل التمأزق والاختلال التي سقت بعضها بإيجاز، يجوز الاقرار أن عبارة «الإتحاد» في إسم الحزب أمست اليوم غير مستجيبة ولا مستحقة لمسماها، كما تثبته إشارات سالفة وأخرى كثيرة أفرزتها الظرفية القائمة. ولا يتعلق الأمر هنا بالاختلاف- الرحمة ولا بالتباين النظري والإيديولوجي الذي يُحتكم فيه إلى المعيار الديمقراطي، بل بالخلف العدائي والحقد المتأصل المفضيين إلى خراب الصداقات وسيادة جو التباغض والتنابذ والتهاجر، حتى أن عددا من رفاق الطريق بالأمس أصبحوا اليوم من المفرقة قلوبهم، وكأنك بالواحد منهم يقول لخصيمه مع الشاعر: «وكنا نعدّك للنائباتِ/ وها نحن نطلب منك الأمانَ». ولو أرخنا لظاهرة الانشقاقات والنزوحات منذ تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حتى اليوم لأدركنا بالعين المجردة أن تسمية الاتحاد إن هي إلا لفظة متضادة التصريف والمجرى ولا وقع لها ولا ترجمة في لغة البرنامج والخطة. وكم من وزير «إتحادي» عانى من جفاء رفاق الطريق وحقدهم ومن إهمال صحافة الحزب وتحرشاتها؛ ولن أنسى كلام زميل لي في الحكومة السابقة: والله لو استطاعوا أن «يقرطسوك» لفعلوا... أما الاشتراكية، وهي مبدئيا هوية الحزب الإيديولوجية والفكرية وصورته المميزة داخليا وخارجيا، فإني أطالب أي خبير ثقة من أي جهة جاء أن يكشف لنا بالفحص الدقيق والدليل الملموس عن تفعيل اشتراكية الحزب وتطبيقها، ولو بنسبة ما في قطاع واحد من القطاعات الوزارية التي أشرف عليها ودبر شأنها قرابة عقد من الزمان (1998-2007): المالية والخوصصة! [كذا!]، الفلاحة، التربية الوطنية والتعليم، الثقافة... وبالتالي، فإن اشتراكية الحزب، إلى أن يُظهر بحاثة مقتدر العكس، إن هي، بدورها، إلا إطار صوري يجعل انتماءه إلى الأممية الاشتراكية محل مساءلة مشروعة ومشاركته في مؤتمراتها أقرب ما تكون إلى الغمس خارج الصحن أو التعطر من قوارير فارغة. وأما تسمية القوات الشعبية التي كان لها ما يبررها في سنوات النهج الصدامي والجمر والحرب الباردة، فإنها أصبحت اليوم عبارة عن صورة مجازية بفعل تباعد الحزب عن تلك القوات وتفكك عراه بها، وهو واقع لا يختلف في إدراكه وإثباته عاقلان، كما دلت عليه مثلا، بالصوت والصورة وبحجة النتيجة، صدمة 7 سبتمبر المذكورة. وحتى لو افترضنا جدلا أن الحزب في مقدوره أن يعيد في مستقبل منظور تجذره الشعبي، فإن من الاستعلاء الأهوج والتهافت اللاديمقراطي أن يتمادى في الاعتقاد أنه الوصي الأوحد على القوات الشعبية أو أن هاته حكر عليه وملك له . المحصل من تلك الاشارات والتنبيهات أنه آن الأوان لتغيير أو قل تجديد إسم الحزب بكلمات خفيفة في اللسان ثقيلة في الميزان، مثلا «الحزب الاشتراكي»، كما في فرنسا وبلدان أخرى، وهو أمر موكول إلى المؤتمرين عبر ملتمس يعرض للتصويت. ولا غرو، فقد غير الحزب اسمه في المؤتمر الاستثنائي، وغير ثلاث مرات أسماء صحافته وجهازه التشريعي، كما فعلت ذلك أحزاب وطنية وحتى أعرق الأحزاب الغربية على اختلاف انتماءاتها السياسية. ويحسن أيضا استبدال اسم الكاتب الأول (!) باسم الأمين الأول، تأكيدا على أن هذا المنصب أمانة قبل كل شيء (وهذا هو معنى secrétaire الذي أسأنا ترجمته)، أمانة يؤتمن عليها من هو جدير بها، ويحاسب على أدائها وتدبيرها بعد أن يكون تَعَهَّدَ كتابة ًبأن لا يشرك بمهامه الحزبية أي وظيفة أو انشغالات أخرى، وذلك حتى يضطلع بواجب تفرغه الكامل للحزب بكل جوارحه وجوانحه وملكاته، أي جسما وروحا وفكرا؛ ومراعاة هذا الشرط المدخلي هي التي تعده لإعادة الصحة والصدارة لتنظيمه، فيصير قائده المنتظر. ولعل في تلكم التغييرات وغيرها إشارات قوية على فتح صفحة جديدة أكثر تجاوبا مع التحولات الوطنية والاقليمية والعالمية؛ صفحة لا تتنكر للماضي، بل تثمن لحظاته المشرقة، وبالقيم المضافة العليا تصونه وتقويه. ختامه نداء قد أسترسل في الرصد والوصف للكشف عن عقد وقضايا أخرى مكملة للتي ذكرتها لماما أو لم أطرقها نظرا لضيق الحيز، لكن ذلك لن يزيد ذكاءنا التحليلي إلا تشاؤما من النوع الذي يستدعي ترياقه الأوحد، ألا وهو، حسب تعبير لغرامشي، تفاؤل الإرادة. واليوم وقد حاق الخطر بالحزب واشتدت أزمته، فهل لمناضليه وقيادييه إرادة (كطاقة متجددة، فعالة، صادقة) في إنقاذه وبلورة توجهاته واختياراته وتعميقها من أجل تصحيح معاطبه ومساره؟ أعضاءَ المؤتمر التاسع، نساءً ورجالا: مهام جسام ملقاة على كواهلكم أذكر بعضها اختصارا: الأمل معقود في ما ذكر وسواه على إرادة المؤتمرات والمؤتمرين وذكائهم اللذين سيوضعان على محك الدراية المعرفية والحنكة السياسية، وفي ميزان الفعل القيمي والأخلاقي. والأمل معقود على أن يفرز عدد المفوضين للمؤتمر فئات فاعلة مؤثرة (أي لوبيات بناءة) تكون من الوعي والمسؤولية بحيث تعصى على الاستغفال والاستغباء، فتُفشل أساليب الدس والمناورة وطرائق المقايضات والطبخ الكوْلسي، التي هي والديمقراطية والحداثة على طرفي نقيض، مهما يكن نمط الاقتراع والانتخاب. على المفوضات والمفوضين واجب النظر والبت في قضايا جوهرية تتعلق بحاضر الحزب ومستقبله المنظور، منها «تجربة التناوب التوافقي» هل كان نعمة أم دون ذلك وبأي مقدار؛ ومنها قضية التحالفات الممكنة أو المستحيلة في أفق انتخابات 2013 الجماعية وتشريعات 2017. المعول عليكم في أن تكونوا مدشني تغيير قوي يَلحق جهاز الحزب التشريعي، أي المجلس الوطني المنتخب في المؤتمر، وذلك بإخراجه من وضعه السابق كغرفة تعج بالمداخلات الكلامية وتضج، وما يفيد منها ويغني سرعان ما تطويه رياح الاهمال والنسيان، وكل ذلك في دورات متباعدة، لا مقررين لها ولا ضوابط ولا نتائج. وهذا المجلس لن يؤدي دوره، كبرلمان، ويكون له تأثير ومنتوجية إلا بتقوية أعضائه المنتخبين بلائحة أعضاء بالصفة يختارون كخبراء وباحثين؛ ويلزم أن يكون هذا الاقتراح البناء موضوع ملتمس يعرض أيضا على المؤتمرين للتصويت؛ كما أن البرلمان ذاته لن تقوم له قائمة إلا بتخويله سلطات وصلاحيات تطال كل مرافق الحزب الحيوية وتشركه في جميع القرارات، بما فيها الترشيح للاستحقاقات الجماعية والتشريعية وحتى للحقائب الوزارية؛ مجلس وطني يكون له الحق في تقييم ومساءلة أداء الاشتراكيين، رجالا ونساء، في المجالس المنتخبة والبرلمان بغرفتيه؛ مجلس وطني له الحق أيضا في مساءلة وزراء الحزب ومحاسبتهم على أدائهم ومردوديتهم، وعند الضرورة تقديم ملتمس حجب الثقة عن سياسة في هذا القطاع أو ذلك يقودها وزير اشتراكي لا تتلاءم مع برنامج الحزب واختياراته. (ويشهد الأخوان الراضي ولشكر أني طالبت كتابة بإطلاع المكتب السياسي وأجهزة أخرى على عملي كوزير للثقافة وهو منصب لم أسع إليه قط , ولكن لا استجابةَ لمن تنادي)؛ كما يكون للمجلس المذكور صلاحيات أخرى ذات بعد استراتيجي كالعمل على خلق قطب يساري كبير، والتفكير المعمق في إحياء مشروع اتحاد المغرب العربي، وفي العولمة والسياسة الخارجية والشراكة المغربية الأوروبية، علاوة على الإسهام في قضايا إصلاح الحقل الديني وهويتنا التاريخية وترقية مقدراتنا الثقافية والإبداعية، وغير ذلك. كل تلك المهام الجديدة للمجلس الوطني المنتخب يحسن به أن يضطلع بها مستعينا بخبرة ورزانة هيئة حكماء، تضم الكتاب الأُول السابقين، كما ألمعنا، وشخصيات حزبية أخرى، ما أحوج التنظيم إلى تقرير خلقها في مؤتمره القريب. ختاما، أفترض أن في مستطاع أعضاء تلك الفئات المؤثرة، وكل من له غيرة على صحة الحزب وإيمانا بحاجة البلاد الماسة إليه، أن يعملوا بوسائلهم المشروعة وعبر أجهزتهم المنتخبة لإيقاف مسلسل السياسة الريعية، والتهافتات الوصولية، والازدواجيات الموقعية والمواقفية، وغير ذلك من المعاطب والانحرافات التي يجب على الحزب أن يتمنع ضدها حتى لا تتهدد تلكم» السكتة القلبية» نوابضَه الذاتية وحياته. وعلى هذا النحو وهذا الطريق يكون التنظيم الأنموذجَ والقدوة لأحزاب مغربية كثيرة، أبطرتها شهوات السلطة وأنعامها حتى أعمتهم عن النقد الذاتي والمصلحة العامة. وبالتالي، فإن الأمل معقود على فعاليات الاتحاد الاشتراكي لكي يحققوا في مؤتمرهم التاسع نقلة نوعية، يتم فيها النظر والحوار حول ما تراكم من إشكالات وعقد منذ سنوات طوال، ومن ضمنها قضية توافق الحزب وتماهيه مع قطاعاته الشبيبية والنقابية والنسائية والثقافية، وذلك من أجل مد جسور التواصل البناء وتقوية الفعل الاشتراكي المجدي المعطاء. وللحديث صلة بعد انتهاء أشغال المؤتمر...