ألقى الاستاذ إدريس اليازمي رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان صباح أمس ، درسا افتتاحيا بكلية الحقوق بأكدال الرباط بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان ، وفي سياق انطلاق قافلة حقوق الانسان التي تنظمها اللجنة الجهوية الرباطالقنيطرة . وفيما يلي نص الدرس الافتتاحي: إعادة تشكيل مجتمع سياسي ترأس ملك المغرب في السادس من يناير 2006، بحضور عشرات من ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان السابقين ومجموع كبار مسؤولي الدولة، حفل تقديم تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أحدثت سنتين من قبل، وتقرير الخمسينية، الذي وقف عند حصيلة التنمية البشرية بالمغرب على امتداد خمسين سنة من الاستقلال وحدد التحديات الرئيسية للبلاد في المستقبل. وقد تميزت السنوات التي سبقت هذا الحدث، بلحظتين هامتين : أولهما الاعتراف بالتعددية الثقافية للمغرب وعلى رأسها المكون الأمازيغي وذلك من خلال إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وثانيهما إصلاح مدونة الأسرة، الذي يعد أحد أهم الإصلاحات التي عرفتها القوانين المنظمة لوضع المرأة في العالم الإسلامي منذ الإصلاح التونسي الذي بادر به الرئيس بورقيبة سنة 1956. وقد جاء هذا الإصلاح بعد نقاش عمومي قوي دام نحو سنتين، انقسم المجتمع جراءه بشكل عميق بين مؤيدي ومعارضي التغيير، والذي تُوج بتنظيم مسيرتين سلميتين حاشدتين بالدار البيضاءوالرباط نظمهما كل طرف على حدة. إصلاح قبل الربيع العربي : هكذا، تميزت بداية القرن الحالي بالمغرب بإطلاق سلسلة من الإصلاحات السياسية التي همت إشكاليات مركزية مرتبطة بحقوق الإنسان: المساواة، التعددية، الحقوق المدنية والسياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ففي سياق إقليمي ساد فيه الاستبداد بكل أشكاله ? قبل الربيع العربي بوقت طويل حيث كان هذا الحراك غير متوقع بالمرة- كانت للمغرب جرأة القيام بمجموعة من الإصلاحات. وفي الوقت الذي كان يدعو فيه خطاب المحافظين الإمبرياليين الجدد إلى إحداث تغيير بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وإن باستعمال القوة، جرى تدبير الانتقال المغربي بفضل التقاء فاعلين اثنين : المؤسسة الملكية وفاعلون من المجتمع المدني، كانوا معارضين سياسيين سابقين (أغلبهم من اليسار) واشتغلوا في حقل حقوق الإنسان، كما أن أجندة ومضمون الإصلاح لم تكن إملاء خارجيا، بل تعلق الأمر بمجهود وطني صرف. تابعت بانبهار حينها، وأنا بباريس أشغل منصب الكاتب العام للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، المسريتين اللتين نظمتا حول وضع المرأة. ومما غذى في نفسي الأمل في تطور المغرب، ما تميز به ذلك النقاش المجتمعي من قوة وكثافة وطابع سلمي، أكثر مما خلص إليه من نتائج. لأنه في العمق ماذا تعني الديمقراطية غير قدرة مجتمع ما على خوض نقاش سلمي، ولو بشدة أحيانا، حول رؤى ومشاريع متباينة كما هو الشأن هنا بالنسبة لمسألة المساواة؟ ليس الأمر، بطبيعة الحال،كافيا للإرساء النهائي لمنظومة ديمقراطية، لكنه مكون من مكوناتها الرئيسية وانطلاقة جيدة لبلوغها. من هذا المنطلق، قبلت الانخراط في هيئة الإنصاف والمصالحة وذلك من أجل المساهمة في الإصلاح، خطوة خطوة، هنا والآن. كيف نقوم بجبر الأضرار ؟ هل يمكننا جبر الأضرار نهائيا؟ شرعت لجنة الحقيقة في عملها بتناول قضية أثارت جدلا وبإرث وجب تدبيره: ذلك أن ولاية الهيئة تنص على اضطلاع هذه الأخيرة بتحديد المسؤوليات المؤسساتية عن الانتهاكات المرتكبة ما بين سنة 1956، تاريخ استقلال المغرب، وسنة 1999 وعدم الذكر العلني لأسماء المسؤولين الأفراد. كان هذا المنع بالنسبة لبعض فاعلي المجتمع المدني، إجهازا على كل الآمال بل جعلهم ذلك يجزمون أن ليس ثمة ما يمكن انتظاره من هيئة الإنصاف والمصالحة. غير أن هذا المقتضى يعد بطبيعة الحال أحد العناصر الأساسية في التوافق السياسي الذي مكن من إحداث الهيئة في ظل الاستمرارية أي في بلد لم يتغير نظام الحكم فيه. اعتبرنا في الهيئة حينها أن المهم هو الوصول إلى توصيات تفتح الباب نحو تسوية أوجه العجز السياسي والقانوني والمؤسساتي التي كانت وراء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أكثر من مسؤولية بعض الأشخاص. كما اقترحنا تبني مقاربة شاملة لجبر الضرر لا تلغي، بأي حال من الأحوال، الحق الثابت للضحايا في اللجوء إلى القضاء، إن هم رغبوا في ذلك، للمطالبة بمساءلة المسؤولين عن الانتهاكات جنائيا. على المستوى الملموس، وافق غالبية الضحايا على هذا الاختيار من خلال إيداع طلباتهم لدى هيئة الإنصاف والمصالحة من أجل المطالبة بمعرفة الحقيقة وجبر الأضرار، في حين اختارت بعض العائلات تقديم شكايتها للقضاء. ولازال بعض أصدقائي المختصين في القانون، والذين يشتغل بعضهم بمنظمات دولية لحقوق الإنسان، يرفضون هذا الاختيار إلى يومنا هذا. لكن ذاكرتي ما زالت تحتفظ بجملة قالتها لي أختي حينها وهي تنظر لابنها ذي العشر سنوات : «نعم للصفح إذا كنا سَنُمْنَحُ في المقابل ضمان عدم تكرار ما عشناه». وهو الموقف الذي تبناه بعض الضحايا الذين تمت دعوتهم لتقديم شهادتهم في جلسات الاستماع العمومية : رغم أنهم كانوا يعارضون عدم ذكر أسماء المسؤولين عن الانتهاكات، إلا أنهم احترموا جميعهم العقد الأخلاقي الذي ربطناه معهم قبل إدلائهم بشهاداتهم مباشرة على أمواج التلفزة. ويبدو لي اليوم أن هذا الاختيار (الذي اجتمع عليه كل أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة وكل الفاعلين السياسيين ومعظم الضحايا) والذي يقر بنوع من التجاوز الطوعي عما جرى والصفح الضمني، كان اختيارا سياسيا بامتياز. إنه شبه اجماع يخلق توافقا عقلانيا, ويفتح مجال الممكن (الإصلاحات المؤسساتية) بدون الإلغاء النهائي لحق من حقوق الضحايا. إذ ظل اللجوء إلى القضاء دائما ممكننا ولم يعط العفو صفة قانونية. أما الإرث الذي وجدته هيئة الإنصاف والمصالحة فيتعلق بهيئة التحكيم المستقلة، وهي لجنة أحدثت سنة 1999 لتعويض الضحايا السابقين للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والتي انتهت ولايتها مع انطلاق عمل هيئة الإنصاف والمصالحة. وقد قامت هيئة التحكيم المستقلة، التي توصلت بنحو 8000 طلب، بالبث في نصف هذا العدد تقريبا. فورثت هيئة الإنصاف والمصالحة إذن النصف المتبقي من الملفات وكان يضم طلبات وردت خارج الأجل، كما فتحت الهيئة الباب لتلقي طلبات تعويض جديدة. وقد تدفقت الطلبات على الهيئة التي عالجت في المجموع نحو 20 ألف طلب تعويض تقدم بها ضحايا مباشرون أو ذوو حقوقهم. وقد عملت مجموعة العمل التي شكلتها هيئة الإنصاف والمصالحة لهذا الغرض على مراجعة معايير هيئة التحكيم المستقلة وتبنت مقاربة شاملة للتعويض تشمل : الإشارة الصريحة لمسؤولية الدولة عن الانتهاك، التعويض المادي (مع أخذ مقاربة النوع بعين الاعتبار)، التغطية الصحية، تسوية الأوضاع الإدارية بالإضافة إلى تدابير خاصة بالإدماج الاجتماعي لفائدة 1500 شخص. ومازال فريق التتبع المحدث بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، الذي تم تكليفه بمتابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، يصدر إلى اليوم مقررات تحكيمية. فإذا كان أزيد من 95 في المائة من الملفات قد تم إغلاقها، فإن بعض المئات من الحالات لم تسوى بعد، خاصة في مجال الإدماج الاجتماعي. ويعتبر بعض الضحايا الذين لم يستفيدوا من هذه التدابير التكميلية أنه تم إقصاؤهم بدون وجه حق. بعضهم يحتج من حين لآخر للمطالبة بالاستفادة من نوع من المعاش مدى الحياة وآخرون يطالبون بمراجعة مبالغ التعويضات التي خصصت لهم. لكن بما أن ولاية هيئة الإنصاف والمصالحة قد انتهت وأن المجلس الوطني لحقوق الإنسان ليس مكلفا إلا بمتابعة تنفيذ توصياتها فليس ثمة أساس قانوني يمكن الارتكاز عليه لتلبية مثل هذه المطالب، إلا إذا تبين وجود خطأ مادي جلي وقع أثناء معالجة الملفات. يمكن أن نستفيض طويلا في النقاش حول المعايير المعتمدة والمنهجية المتبعة في هذا المضمار. والواقع أنه في التجربة المغربية، جعل واضعو التصور لولاية هيئة الإنصاف والمصالحة خمس مهام رئيسية ومتساوية الأهمية : تحديد كيفيات جبر الضرر الفردي، الكشف عن الحقيقة خاصة في حالات الاختفاء القسري، تحديد المسؤوليات المؤسساتية، شرح السياق التاريخي للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبلورة توصيات من شأنها ضمان عدم تكرار ما جرى. لكن، وإن كانت الاختصاصات الثلاثة الأخيرة تدخل أيضا في مجال التعويض، فليس من المؤكد أنه قد تم فهم هذه المقاربة في شموليتها من لدن الجميع، وأن البعد المادي لم تكن له الغلبة في أذهان العديد من المجموعات على حساب البعد السياسي الصرف لعمل هيئة الإنصاف والمصالحة. قد يكون لهذا الوضع تفسير تاريخي. ذلك أن مسلسل التعويض الفردي بالمغرب بدأ منذ فبراير 1993 من خلال صرف معاش شهري، لفترة من الزمن، لفائدة ضحايا اختفاء جرى إطلاق سراحهم، كما تم بعد ذلك سنة 2000 إعادة إدماج معتقلين سياسيين سابقين في عملهم وصرف رواتبهم المستحقة منذ تاريخ اعتقالهم، وتلى ذلك إحداث هيئة التحكيم المستقلة ثم هيئة الإنصاف والمصالحة. لكن، ونحن على مسافة معينة اليوم من التجربة، يمكننا أن نتساءل : ألم يكن يجدر ربما إعفاء هيئة الإنصاف والمصالحة من هذه المهمة وإناطة المسؤولية الكاملة لتدبيرها بآلية للتتبع؟ الجماعات والأفراد : رد الاعتبار للمجال السياسي رغم حرص أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة على أداء المهام المنوطة بهم في مجال التعويض الفردي، لكن سرعان ما انتبهوا إلى الخطر القائم بأن يُنْظَرَ إلى علمهم على أنه مجرد توزيع للمبالغ المالية، والتي لا يمكنها، مهما كان قدرها، أن تمكن من إرساء دعائم المصالحة، ومن هنا برزت الأهمية التي تم إيلاؤها في وقت مبكر لجلسات الاستماع العمومية ولجبر الضرر الجماعي. انطلق مسلسل بلورة مفهوم جبر الضرر الجماعي في شتنبر 2004 من خلال انعقاد ندوة لهيئات المجتمع المدني نُظمت بمدينة أكدز التي احتضنت سابقا مركز سريا للاعتقال، وتُوِّجَ هذا المسلسل بمنتدى وطني نظم، سنة بعد ذلك، من طرف لجنة إشراف وضعتها هيئة الإنصاف والمصالحة مشكلة من عدد من الجمعيات، وحضره أزيد من 250 جمعية. وقد وردت جميع التوصيات الصادرة عن هذا اللقاء في التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة. وبمجرد انتهاء ولاية الهيئة تم إحداث 13 تنسيقية محلية تضم هيئات المجتمع المدني والجماعات المحلية والمصالح الخارجية للدولة. فما هي حصيلة هذا البرنامج بعد ستة سنوات؟ لقد مكن برنامج جبر الضرر الجماعي، الموجه للمناطق التي تعرضت لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو تلك التي تم إحداث مركز اعتقال سري فوق ترابها ويعتبر سكانها أنهم عانوا بشكل جماعي من تلك الانتهاكات، بشكل تشاركي (تم توقيع نحو 20 اتفاقية مع مختلف الوزارات) وبناء على مقاربة للنوع، من تمويل 130 مشروعا من إعداد الجماعات المعنية (الأنشطة المدرة للدخل خاصة لفائدة النساء، المراكز السوسيو ثقافية، أنشطة حفظ الذاكرة...). وسيتم، بموجب اتفاق مبرم مؤخرا مع الحكومة، إنجاز مشاريع تهم التجهيز والبنيات التحتية برسم ميزانية 2012-2013 (الطرق، المستوصفات إلخ). لكن هناك تحد ما زال قائما ويثير حاليا العديد من النقاشات، ألا وهو ضمان استمرارية بعض المشاريع خاصة ديمومة المشاريع الاقتصادية. ولم تكن هذه الدينامية، التي تم خلقها في وقت قصير نسبيا، والتي واكبها مجهود مهم في مجال التاريخ الذي اعتبرته الهيئة أيضا مكونا من مكونات جبر الضرر الجماعي - سنعود ذلك لاحقا- لتكون ممكنة لولا توفر بعض الشروط. بتحفيز من أعضاء سابقين بلجان للحقيقة سبقونا لهذه التجربة والذين أطلعونا على خبرتهم في المجال في إطار دورة تكوينية نظمت بمبادرة من المركز الدولي للعدالة الانتقالية، تساءلنا منذ الأشهر الأولى من حياة هيئة الإنصاف والمصالحة عن الشروط الواجب توفرها من أجل تنفيذ التوصيات الختامية في أسرع وقت ممكن. وأعتقد في هذا الصدد أن ثمة أربعة شروط، ضرورية ولكن غير كافية، يجب توفرها : إقامة أكبر قدر ممكن من التحالفات السياسية، بلورة توصيات محددة، إشراك الهيئات والفاعلين الذين من شأنهم السهر في أقرب وقت ممكن على تنفيذ التوصيات في مسلسل بلورة التوصيات في حد ذاته وأخيرا طرح إشكالية الموارد البشرية والمالية بوضوح. إن فلسفة العمل هذه، هي التي مكنت من القيام بأعمال قد تبدو للوهلة الأولى أنشطة كلاسيكية للتنمية المحلية، لكنها تأخذ كل بعدها السياسي إذ لم يغب عن أذهاننا أن الهدف الأساسي هو إعادة الثقة في الدولة، النهوض بالمشاركة المواطنة التعددية على المستوى الترابي، فتح الإمكانية، لأولائك الذين كانوا محرومين من كل شيء وأساسا من حقهم في التعبير، لأخذ زمام أمورهم بأيديهم والانتقال من وضع الضحية إلى وضع المواطن. لقد تقوى هذا البعد السياسي بجلسات الاستماع العمومية التي نظمت، بعد نقاش داخلي طويل، ما بين دجنبر 2004 وفبراير 2005، وبثت على أمواج التلفزة والإذاعة الوطنية. لقد شكلت جلسات الاستماع، التي طبعتها الشهادات التي قدمتها بعض النساء، ليومنا هذا لدى غالبية المواطنين، أهم ما ميز عمل اللجنة. وكان هناك نوعان من جلسات الاستماع : إما شهادات مباشرة لضحايا سابقين تمت دعوتهم إلى البوح، دون مقاطعة وباللغة التي يختارونها، بما تعرضوا له من انتهاكات، أمام أعضاء الهيئة وساكنة المدينة التي تم اختيارها، وإما موائد مستديرة موضوعاتية، حاول خلالها مثقفون وفاعلون مجتمعيون القيام بقراءة تعددية لتاريخ البلاد. هكذا، شكلت جلسات الاستماع العمومية اللحظة القوية لمسار واسع من المشاركة والتداول المواطن والمواساة والتعبير الحر. وهو المسار الذي تميز أيضا بالندوات التي نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة (حول أدب السجون، مفهوم الحقيقة، المحاكمات السياسية، إلخ)، بالإضافة إلى الآلاف من المقالات التي نشرت خلال هاتين السنتين والعشرات من المؤلفات والعديد من المبادرات التي أطلقها هيئات المجتمع المدني بما في ذلك تلك المنتقدة لعمل هيئة الإنصاف والمصالحة. تعتبر هذه الدينامية القائمة على إعادة تملك التاريخ (وإن بشكل نسبي) وعلى النقاش التعددي و»المواجهات» السلمية، أحد الإسهامات الأساسية للعدالة الانتقالية. إذ لا يكمن الهدف في تحقيق الإجماع وإنما تعلم التدبير الجماعي والسلمي للاختلاف. لذلك أرى أن المصالحة هي سير جماعي على طريق طويل، مضني، صعب ومعقد قوامه مواجهة ما ارتكبه بعضنا في حق بعض، مع محاولة فهم دوافع وأسباب ما جرى، عدم نسيانه لكن مقاربته بما يلزم من نسبية، وإدراجه في مقام يتجاوز الذاكرة إلى التاريخ الوطني وتاريخ البشرية. إنها زيارة، لما أسمته المخرجة المغربية الشابة ليلي كيلاني في فيلمها المؤثر، «أماكننا الممنوعة» من أجل إعادة خلق مجتمع سياسي. الحقيقة، التاريخ والذاكرة في ظل هذا المسار، يغدو البحث عن الحقيقة عملا مضنيا ومهمة شاقة. إذ سرعان ما اكتشفنا الوضع المزري للغاية للأرشيف العمومي : إذ كان القانون المنظم للقطاع آنذاك يعود لسنة 1926 والأرشيفات الخاصة كانت قليلة جدا إن لم تكن منعدمة. وبدا استغلال الأرشيفات النادرة المتوفرة عملا صعبا جدا ومحبطا. وتبين لنا، على إثر جرد لأطروحات الدكتواه التي تمت مناقشتها في مجال العلوم الإنسانية بالجامعات المغربية، أن الغالبية العظمى لتلك الأطروحات تتناول فترة ما قبل الحماية (1912). لذلك استندنا أساسا على ذاكرة المناضلين والشهادات الشفوية (للضحايا والموظفين السابقين) محاولين توضيحها بما نعرف عن التاريخ السياسي للبلاد، رغم أنه قليل جدا من وجهة نظر أكاديمية صرفة. من خلال محاولة إجراء التقابلات بين المعطيات الشفوية التي تم تجميعها بالطريقة السالفة الذكر وبين الحكايات المكتوبة في الآلاف من الطلبات التي تلقتها الهيئة، تمكنا من التقدم شيئا فشيئا على درب الكشف عن الحقيقة. وقد تمكنت الهيئة عند انتهاء ولايتها من تحقيق نتائج هامة في هذا الصدد، لكن عدم التمكن من إجلاء الحقيقة بشأن حالات مشهورة للاختفاء مثل قضية بن بركة أثارت خيبة أمل لدى البعض وهو إحساس مشروع على كل حال. كما أن بعض الفترات التي اتسمت بمواجهات سياسات عنيفة بالريف أو داخل الحركة الوطنية بُعَيْدَ الاستقلال على سبيل المثال، لم توضح بما فيه الكفاية. بالإضافة إلى كون بعض النتائج قد أثارت لدينا عددا من التساؤلات، حيث كان عدد ضحايا المواجهات الحضرية الذي وصلت إليه الهيئة يتجاوز ما ورد في الطلبات الواردة من العائلات. لقد اكتشفنا، ومعنا المجتمع المغربي، أننا ربما نعاني مما يمكن أن نصفه ب»تضخم في الذاكرة وعجز في التاريخ» وأن العمل الذي تم القيام به يجب استكماله لكن بسلاح الصرامة العملية الأكاديمية. ولهذا السبب أصدرت الهيئة العديد من التوصيات من أجل وضع سياسة حديثة لتدبير الأرشيف ومجهود متواصل للتكوين الأكاديمي وتعزيز البحث وأخيرا وضع سياسة لتعميم المعارف حول المجال من خلال إحداث المتاحف. وقد صادق البرلمان سنة 2007 على قانون حديث لتدبير الأرشيف وتم تنصيب مؤسسة أرشيف المغرب رسميا سنة 2011. ويوجد مقرها حاليا قيد التجهيز ومن المنتظر أن يتم قريبا إطلاق أول عملية جرد للأرشيف العمومي والخاص بالمغرب. وقد تم إنجاز دراسة تهم واقع البحث حول التاريخ الراهن وتم إحداث ماستر في التاريخ الراهن. وفي أكتوبر 2012 سيفتح المعهد المغربي للتاريخ الراهن أبوابه. كما تم تنظيم ثلاث ندوات علمية بكل من الحسيمة (يوليوز 2011) والداخلة (دجنبر 2011) وورزازات (يناير 2012) من أجل إحداث متاحف جهوية للتاريخ بتلك المدن. من جهة أخرى، وفي إطار برنامج جبر الضرر الجماعي، تم تمويل العديد من المشاريع الجمعوية التي تهم الذاكرة. هكذا، رأت أفلام وإصدارات ومسرحيات النور، ومكنت بدورها الفاعلين المجتمعيين من المساهمة بطريقتهم في مسلسل القراءة التعددية لتاريخ المغرب. إصلاح بعد الربيع العربي منذ شهر يوليوز 2011، أضحى المغرب يتوفر على دستور جديد، أعدته لجنة استشارية مؤلفة من 19 شخصية ويرأسها عضو سابق لهيئة الإنصاف والمصالحة ويوجد من بين أعضائها أيضا عضوين سابقين لتلك الهيئة. يمكن أن نرى في هذا الأمر مجرد صدفة كما يمكن أن نقرأه كإشارة إلى استمرارية إرادة الإصلاح. ومهما يكن من أمر، فقد شكلت التوصيات التي تضمنها التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة بخصوص ضمانات عدم تكرار ما جرى من انتهاكات إحدى المرجعيات في بلورة القانون الأسمى الجديد. وحاليا جرى إطلاق ورش الحوار الوطني حول إصلاح العدالة. وفي تونس وليبيا واليمن ومصر تتم العشرات من المبادرات والنقاشات في مجال العدالة الانتقالية معلنة ربما، بروز دروة عربية لمسارات العدالة الانتقالية بعد موجة دول أمريكا اللاتنية وإفريقيا. وبدأت تلوح لنا الأسئلة الأولى ونقاط الجدال، كما عشناها نحن في تجربتنا. لكن الأساسي هو الخطوة الأولى أي التوفر على شجاعة وجرأة فتح صفحة الماضي المثقل بالآلام الإنسانية من أجل محاولة رسم مستقبل جماعي. * (رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان)