بقلم عزيز المسيح (و.م.ع) من بلدان عربية مختلفة، واهتمامات وخلفيات مرجعية متعددة، آلف بين قلوبهم عشق قديم بطعم الحب الأول لمغرب أقاموا في رحابه سنين عددا، وأحبوه بإخلاص ووفاء متواصل، التقت أمس، ثلة من المثقفين والإعلاميين العرب، بالرباط لاستعادة حكاية ذلك العشق المغربي الأصيل. بنوستالجية حميمية لذاكرة بدايات اللقاء مع مغرب كان يبدو لهم قصيا، تختزله بعض الكلمات والأشياء، عاد كل من علي القاسمي (العراق)، وطلحة جبريل (السودان)، وواصف منصور ومحمود معروف (فلسطين) لاستذكار تلك المحطات الأولى التي ستقودهم من خلالها مسارات وأقدار مختلفة لبلاد احتضنتهم على الدوام بمحبة ونبل، وخصهم أهلها بتقدير واحترام ورعاية ترقى إلى مقام الإجلال والإيثار. جميعهم ذكروا الحضور بأن تلك الدهشة الأولى أو مشاعر الاغتراب التي غالبا ما يشعر بها الإنسان كلما قادته خطاه إلى بلد غير بلده، لم يكن لها مكان في ذلك المقام البعيد في مغرب السبعينيات، ليس فقط لأن ناس هذا البد الأمين آووهم ونصروهم منذ البداية ولم يشعروهم بطعم الغربة، ولكن لأنهم سيكتشفون أن ذلك المغرب، الذي كان بالكاد يتبدى تاريخا وجغرافيا لشرق «مهيمن »، أرسى الأسس الأولى لدولة ومجتمع يقومان على التعايش والتسامح الديني والتعددية السياسية والحركية الثقافية الواسعة والاحتضان الشعبي لقضايا الأمة، واجتراح تجربة بناء مدينة عصرية ومتحضرة. أصر هؤلاء المثقفون على التأكيد أن المغرب شكل بالنسبة لهم على مدار عقود ذلك المنبع والمرجع الثقافي والفكري والسياسي والإنساني والاجتماعي الذي غرفوا من معينه وما يزالون، مما أثرى مسارهم وتجربتهم الإنسانية والإبداعية والمهنية، مصرين على أن البلاد شكلت لهم الملاذ والملجأ الآمن لممارسة «مغربيتهم وعربيتهم» بشكل عادي وطبيعي متألف وذلك بالنظر لوجود عوامل ترسخ أسس التعايش والمثاقفة والانصهار في بوتقة الجماعة تقاليد وأعرافا اجتماعية ونمط حياة وذوقا. منتدى الصحافة لوكالة المغرب العربي للأنباء الذي احتضن هذا اللقاء/الشهادة، بحضور شخصيات إعلامية وثقافية مغربية، استدرج هؤلاء العشاق الأربعة من خلال توريطهم في الغوص أكثر فأكثر في أتون ذلك الزمن المغربي الآخر، في لقاء مغرب اختاروا له عنوانا/طعما جاذبا: «غواية مغربية.. شهادات مثقفين عرب يعيشون بيننا». المقام مختلف وإنساني خالص، قال عنه المنتدى إنه «جلسة نوستالجيا وشهادة على تاريخ شخصي ومجتمعي في نفس الآن. أربعة تجارب متنوعة المشارب والآفاق، متعددة الذاكرة تستحضر أسئلة عديدة من قبيل: هل كان قرارا مسبقا أو احتمالا قائما في الوعي أن العبور المغربي سيصبح إقامة ممتدة في الزمن. كيف كان يبدو المغرب كصورة ذهنية ومجموعة معارف مسبقة قبل أن يطأ الشقيق الغريب هذه الأرض، كيف فاوض الوافد الجديد وضعيته المزدوجة بين الإقامة الجديدة وذاكرة المنشأ، كيف واكب المقيم الذي أصبح ابن البلد تحولات المغرب في مناحيها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية». أربعة مسافرين زادهم الخيال أحدهم الإعلامي والديبلوماسي الفلسطيني واصف منصور ابن مدينة حيفا الذي حل بالمغرب في 9 أكتوبر 1964 قادما عبر رحلة قادته إلى عواصم أوربية قبل أن يصل المغرب لدراسة السياسة والاقتصاد. سيحكي كيف ستزداد معرفته بمغرب سياسي يرسي دولته بشكل مختلف عن تجارب سياسية مشرقية، وبمغرب ثقافي تكبر قامته، «ويعرف عن الشرق أكثر مما يعرف هذا الأخير عنه»، بلد اختار فلسطين والفلسطينيين «سرا وعلانية... حبا وطواعية». أما العراقي علي القاسمي فقط حط الرحال عام 1972 للتدريس في كلية الآداب بالرباط مرغما بسبب الوضع السياسي «القمعي» في بلده إبان تلك الفترة ? وطلبا للشفاء من مرض الحنين والشوق، وبعد محطات اخرى في السعودية ولبنان والولايات المتحدة سيعود الى المغرب من جديد في مهام أكاديمية. وعاد الإعلامي السوداني طلحة جبريل بالحضور إلى عام 1975 تاريخ اندلاع قصة حب بينه وبين المغرب أطلقت شرارتها رغبة في التحصيل الجامعي لتنقله المصادفات الغريبة إلى عالم الصحافة ببلد كان تختزله قولة سودانية شعبية في «فاس اللي ما وراها ناس». آخر العصافير المحلقة في سماء البلاد الصحفي الفلسطيني مدير صحيفة «القدس العربي» بالرباط محمود معروف الذي قدم من «قدس بريس» بلبنان، حيث كان يعمل إلى مغرب غرف وتفاعل مع نخبته السياسية والثقافية والإعلامية، مغرب لم يشعر قط «بغربته، مغرب حرره من عقدة الاضطهاد التي ما يزال يشعر بها كل فلسطيني في مطارات عواصم الدنيا..».