يتداعى إلى هذا العنوان، عفوا صفوا، من أحد أعمال الشاعر الجميلة (معروفة لدرويش متجول)، إذ تتبدى لي الرحلة الشعرية ا ليانعة والرائعة للفيتوري، عزفا شجيا وبهيا على قيثار الشعر والوطن، لدرويش إفريقي - عربي مهووس بحب الشعر وحب الوطن. كانت إطلالة الفيتوري الشعرية في طلائع الخمسينيات من القرن الفارط، مزامنة لإطلالة الشعر العربي الحديث، الذي حرك السواكن وآذن بربيع شعري جديد. كان لاسمه ألق ووقع »خاص على الاذن، ضمن كورال الأسماء الرائدة / السياب - نازك - البياتي - عبد الصبور - حجازي - أدونيس - نزار - خليل حاوي... تسلل اسم الفيتوري مبكرا إلى المشهد الشعري العربي، صوتا عربيا إفريقيا دافئا، طافحا بأشواق وهموم افريقيا والوطن العربي المتماوج بين الماء والماء. أطل علينا، نخلة شعرية طالعة من ربوع السودان، معبأة بشموس ومراجل افريقيا. وهنا فرادة وخصوصية اسم الفيتوري، ضمن رواد الشعر الحديث، أو الحداثة الشعرية. لقد أضاف لحنا جديدا وساخنا، إلى معزوفة هذا الشعر، أضاف لحنا افريقيا بهيا الى هذه المعزوفة. وقد كان السياق التاريخي الذي بزغ فيه الفيتوري، سياقا ناغلا مشتعلا، سياق النهوض التحرري - النضالي للعالم الثالث. كانت آسيا وأمريكا اللاتينية، بؤرة تشتعل. وكانت افريقيا تتأهب وتفرك عيونها للنور. وبضربة معلم شعرية، أدخل الفيتوري افريقيا في العزف الشعري العربي. ودواوينه الشعرية الأولى، شاهدة على ذلك - أغاني افريقيا. - عاشق من أفريقيا. - اذكريني يا أفريقيا. - أحزان افريقيا طلع علينا الفيتوري إذن، شاعرا حداثيا أصيلا وملتزما، وعاشقا وامقا من افريقيا. - (عاشق من افريقيا صناعتي الكلام وكل ثروتي شعور، ونغم ولست واحدا من أنبياء العصر لست من فرسانه الذين يحملون رايات النضال أو يخطون مصائر الأمم) منذ البدء إذن، يقطع الشاعر مع الدونكشوشية الشعرية و النضالية، ويتجرد من الأوهام والإحلام والرايات والشعارات، مما كان سائدا إبانئذ، ويكتفي بالانصات لهموم وشجون العالم. يكتفي بأن يلبس جبة درويش متجول عبر براري الشعر ومضارب الوطن العربي الممتدة أوجاعه من الماء إلى الماء. وعبر دواوينه الحوافل التي أربت على العشرين، كان الفيتوري يتنطس جيدا هموم وشجون الوطن العربي، ويتحسس جيدا أشواق وأحلام الوطن العربي، ويرهص جيدا ببروق الرعود الآتية ولايزال نداء الفيتوري البهي في الستينيات، يرن في الآذان ويتصادى في الوجدان/ ( يا أخي في الشرق، في كل سكن يا أخي في الأرض، في كل وطن. أنا أدعوك.. فهل تعرفني؟! يا أخا أعرفه.. رغم المحن إنني مزقت أكفان الدجى إنني هدمت جدران الوهن لم أعد مقبرة تحكيم البلى لم أعد ساقية تبكي الزمن لم أعد عبد قيودي. عذبة ودافئة لغة الفيتوري الشعرية، ورخيمة لحونه وقوافيه، وشجي الانصات إلى عزفه. لكن الدرويش المتجول الذي جاب براري الشعر، وخبر هموم وشجون الوطن العربي، وعرك الدهر قناته، ينتهي إلى (رؤيا) رمادية. ( خارجا من دمائك تبحث عن وطن فيك مستغرق في الدموع وطن ربما ضعت خوفا عليه وأمعنت في التيه كي لا يضيع. ** خارجا من غيابك لا قمر في الغياب ولا مطر في الحضور مثلما أنت في حفلة العرس والموت. لا شيء، إلا انتظار مرير وانحناء حزين على حافة الشعر في ليل هذا الشتاء الكبير. وكذلك الحال والمآل، بعد طول معاناة وتجوال. فهو الدرويش المتجول الذي خبر الأيام والليالي. هو الشاعر الذي رأى.