صدر قبل بضعة أيام ديوان «دفترُ العَابر» للشاعر الأنيق ياسين عدنان، وأناقته لا تتطلب النظر لسيرته المذيل بها الكتاب، ولا باستحضار الوجه الصبوح الذي يطل على المشاهدين عبر برنامج «مشارف»، ولكن يمكن للقارئ أن يقف عليها، بقراءة نصه الجديد، الذي يحتفي بالأماكن والسفر، الخمر والجميلات، الشعر والنثر. غالبا ما سيكتب لك ياسين إهداء كريما، في حالة التقيته، وإلا فنصه الشعري -الصادر عن دار توبقال للنشر- كريمٌ في ذاته، فهو ليس من تلك الدواوين التي يثقل أصحابها نصوصهم بزحام من كلمات قاموس مُتعِب، بل هي عربية أنيقة مما نتداول، ولا مواضيع مُجهدة يفترض صاحبها أنه مالك للحقيقة، بل هو يحدثك عن يوميات أسفاره، احتفاء بالمكان، والجسد والخمرة والتاريخ والمرأة والانتماء دون إثقال.. فلا تجد بدا من قلب الصفحة في كل حين، خصوصا وأنه ينوع نصه بين الشعر والنثر، فتجيء نصوص الشعر عامة لكُل حين، بمبعد عن الأزمنة، وتجيء نصوص النثر فتشرح ما أبهم الشعر وعمم، يتسلحُ ياسين على سفر الأمكنة، بسفر الأزمنة، فيزاوج السفر بين المدن والبلدان، بالغوص في الكتب، كتب ما بعُدت عن اللغة التي يكتب بها، فتجد درويش و ابن زيدون وابن خلدون والأحاديث، ويتقاطع مع قاموسها أحيانا، ويستجلب كلمات من القرآن، دون أن يغالي في أحدها فيُتعب، ولا أن يقفز على أحد فينصب. المسافر الشاب المغربي العربي الفرنكفوني أستاذ اللغة الإنجليزية.. لا يُنكر عنصرا من ذلك، فتجد في نصه أغنية لناس الغيوان هنا، وأخرى لفيروز وفخرا بالمتنبي درويش والقدس ومراكش، وروني شار وأغنيات لإيديث بياف وشارل آزنفور.. كل ذلك بمقدار، فلا يتمسك نصه بأحدها فتمنعه عن استحلاء الأخرى، متمثلا في كل ذلك -وغيره- معنى الجملة التي وضعها موضع المقدمة، جملة روني شار «الهدف الحقُ هو الدربُ لا ما يُفضي إليه»، برواية الهدف الحقُ ليس المكان ولا الرجال ولا النصوص ولا الأصنام.. بل الهدف الحق هو ما يحدث في أنفسنا، ثم نتركها باتجاه غيرها بحثا عن الأثر. مخاتلة الشعر واجمال اللحظات الألقة، لا يلغي اشكال إجمال الأسفار في كلمة، في عنوان، ما جعل الشاعر المراكشي يتنقل بين عناوين متعددة، «دفاتر العبور»، و»ناي الأندلسي» ثم «في الطريق إلى الجنة»، ليرسوا أخيرا أمره على دفاتر عابرِ، ما علق عليه بخفة؛ (لكأن العناوين حبيباتٌ، وما الحب إلا للحبيب الأول). يس لم يجد أفضل من توأمه ليهدي ديوانه إليه، فالتوأم السندباد ليسا يتشابه فقط فقط، بل هما مشتركين في حب الكلمة، وحب السفر، وأناقة الهندام والمعاني: «إلى طه» يكتب، ويضيف «اخترتَ الهجرة وزُين لي السفر»، فلكأنهما يكملان بعضهما في احتلال الأمكنة، يكون أحدهما مقيما هناك حيث يسافر الآخر، وكأني به يقصد إخبار القارئ تحديدا بمعنى «أنا و أخي التوأم نسكن العالم، وأيضا الكلمات». تنوع الأمكنة ليس في موضوع النص فقط، بل وأيضا في مكان كتابته، بدأه في ورشة ابداعية بمراكش في مارس 2007، ليُنهيه في أغسطس 2011 خلال اقامة أدبية بكاليفونيا، وينشره عبر دار توبقال بالبيضاء؛ ذلك ما يعلن الغلاف، لكن بين دفتي الكتاب ذي المئتي صفحة من القطع المتوسط، تجد العالم، بشموسه ومدنه الكئيبة الشاحبة، عند الهدوء وأماكن الصخب، في رسوخ الكلمات وعند حلمات النهود، وكل ذلك مسقي بكأس من خمرة معتقة متعة للشاربين، والقراء أكثر. الجمهور الواسع -المغربي والعربي- يتابع أو على الأقل سبق وصادف برنامجه الثقافي الأسبوعي مشارف، الجمهور الأوسع قليلا سبق أن قرأ له في دبي الثقافية أو الأخبار اللبنانية، لكن الجمهور المتابع خاصة، عرف مشاركة ياسين في «الغارة الشعرية»، وقرأ ديوان «لا أكاد أرى»، و قبله «رصيف القيامة»، وبالموازة مع كل ذلك من مجموعات قصصه القصيرة، مثل «تفاح الظل» أو «دفاتر رقم 5». نقرأ في الديوان «رأيتُ فيما يرى النائم اليقظانُ أني أمتطي طيرا عظيما من معدن ينفث اللهب الخلبَ يطوي غير هياب سجُوف الليل لا يبالي بالنجوم وللا بقراصنة الأعالي كنتُ فوقه خفيفا حد التلاشي أحلمُ بالجنائن بأمثال اللؤلؤ المكنونِ أحلُمُ بالفراديس البعيدة».. أُحلمْ يا صديقي الأنيق، لكن ومعها أكتب عن كل ذلك، فالقراءة لك مُتعة مميزة.