كان خروج الرسول لنصرة حلفائه ضدّ الاعتداء عليهم من طرف القرشيين، مناسبة أخرى لكيْ تسافر معه إحدى نسائه. وكمْ كانت سعادة عائشة عارمة وهي تنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر, كانتْ تودّ أن تختلي بمحبوبها الرسول لكي تستحضر معه أوقاتهما الجميلة، وتشتكي له من وضعيتها النفسية التي فاقمت من أزمتها مارية القبطية وحملها. غيْر أنّ ما لمْ يكن منتظرا حصل بالنسبة لعائشة. ذلك أنّ سهمها لم يخرج مرّة أخرى. لن تنسى عائشة هذا اليوم، العاشر من رمضان من السنة السابعة للهجرة. كان شعورها بالخيبة كبيرا، لقد فضّل السهم كلاّ من أم سلمة وميمونة. بعد لحظات من الحسرة والألم، اعتبرت في دواخلها أنه قدر الله وقضاؤه، وفهمت أن أمّ سلمة وميمونة تنحدران من العشائر الأساسية في مكة: فأمّ سلمة تنتمي إلى بني مخزوم وبني أمية، في حين تنتمي ميمونة إلى بني هاشم وآل المطلب. وبالتالي فإنّ حضورهما مع الرسول في هذه الغزوة من شأنه دفع قبائلهما وعشائرهما إلى عدم التعرّض للرسول، والدخول في الإسلام بكل تلقائية. ومن أجل التنفيس عنها، اعتبرت أنه من حسن حظها أنها سوف تقضي الليلة مع الرسول، وبالتالي سوف تستمع بالانفراد به، والتملي بطلعته وابتسامته وحدبه وهمسه وكلّ ما تشتهيه فيه ويشتهيه فيها. لا زال شعره أسود مثل لحيته، بخلاف والدها أبي بكر الذي ابيضّ شعره على الرغم من أنها في السنّ نفسه تقريبا. قالتْ له: - كل شيء سوف يسير على ما يرام، إن الله معك. ردّ عليها وهو يقبّلها بكلّ حنانّك - سوف أذهبُ بكل طمأنينة. لقد تركت الدين لك من أجل رعايته. إلى اللقاء ياغزالتي. وبعد توديعها، امتطى ناقته «قصواء» وانطلق يتقدّم القافلة في اتجاه مكة مصحوبة ب»الله أكبر». بقيت عائشة لوجدها تفكّر في مجريات الأمور، وكان الجوّ رمضانيا الأمْر الذي جعل عائشة تتفرّغ للقراءة والكتابة. بعد رجوع الرسول مظفّرا من مكة، استعاد فرحته بجمل مارية، ولمْ يحفل لألم وتعاسة عائشة، زوجته الشابة المحبوبة والتي يعتبرها مفضّلة. خلال هذه الفترة، عاشت مارية القبطية في هناءة وسعادة مع الرسول وهي تعتبر نفسها زوجة فوق العادة. وبعد مرور نحو العام على حمْلها، أنجبت لمحمّد ابنا، ففرح به الرسول أيما فرح، لأنه كان قد قارب الستين من عمره، ولم يبق له من أبنائه إلا فاطمة الزهراء. وكان الطفل جميلا مثل الرسول، وسماه محمّد إبراهيم على اسم إبراهيم الخليل، لكن الله لم يقدر له أن يعيش طويلا، فقُبض قبل أن يكمل عامه الثاني، مما فطر قلب نبي الله وأحزنه على ولده، وأسال دموعه الشريفة على خديه، لكنه صبر واحتسب الثواب عند خالقه. وقد قالت عنها منافستها عائشة:»ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة -أو دعجة- فأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيتٍ لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، حتى فرغنا لها، فجزعت فحولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علين. وعن عائشة أنها قالت مرّة: »أهديت مارية ومعها ابن عم لها، فقال أهل الإفك والزور: من حاجته إلى الولد ادَّعى ولد غيره. قالت: - فدخل النبي »صلى الله عليه وآله« بإبراهيم عليَّ فقال: كيف ترين؟! قلت: من غذي بلبن الضأن يحسن لحمه. قال: ولا الشبه؟! قالت: فحملتني الغيرة. فقلت: ما أرى شبهاً. قالت: وبلغ رسول الله »صلى الله عليه وآله« ما يقول الناس، فقال لعلي: خذ هذا السيف، فانطلق فاضرب عنق ابن عم مارية، فانطلق، فإذا هو في حائط على نخلة يخترف، فلما نظر إلى عليّ، ومعه السيف استقبلته رعدة، فسقطت الخرقة، فإذا هو ممسوح«. أمام هذا السلوك، النابع من الغيرة المفرطة، لمْ يكن أمام محمد إلا أن يبحث عن صيغة للتوافق والإقناع لكيْ لا يخسر لا عائشة ولا مارية. غداّ: الرسول يقنع عائشة بضرورة حبّ ابنه من مارية