بعد عودة الرسول منتصرا ومتزوّجا من عمْرة مكة، وبعد ما أخْبرتها به ابنته فاطمة عن زوجته الجديدة ميمونة، وما تناقلته الألْسن في يثرب، بقيتْ عائشة في بيتها تنتظر محبوبها وهي تتأسّف عن سنوات زواجهما الأولى. تتأسف عن تلك السنوات الجميلة التي لمْ تكن لها من منافسة سوى سوْدة بنت زمعة. كانت صغيرة جدّا، ووحيدة وحالمة، ولمْ تكن تقدّر حجم السعادة، وإلى أيّ حدّ هي ثمينة. واليوم، فإنه يتعيّن عليها أنْ تقتسم الرسول مع الأخريات المنافسات في كلّ شيء، وأن تنتظر دورها وهي تعدّ الساعات، بلْ والأيّّام. في مستهلّ هذه السنة السابعة للهجْرة، سوف تبلغ من العمر ستّ عشرة سنة. ولم تزددْ عائشة إلا جمالا، وبات جسمها أكثر نضجا وأنوثة وقابلية لملذّات أخرى. ولمْ يستطعْ جمال منافساتها داخل الحريم أن يغطّي أو يحجب جمالها الاستثنائي. إنها الآن امرأة حقيقية غلى أخمص قدميْها، بل إنها تفوق الأخريات بذكائها وسرعة بديهيتها وذاكرتها القوية وذهنها الوقّاد والحادّ. من داخل صندوق ملابسها، تناولتْ عائشة تنورة جميلة من الحرير الناصع، المائل إلى لوْن شعرها، وتطيّبتْ بأحسن ما عندها من العطر. لمحتْ ميمونة تدخل إلى الغرفة المعدّة لها. لقد انقضى شهر عسلها في الصحراء. وعائشة هذه الليلة تنتظر محبوبها في لقاء خاصّ بها. حين رأته، تبيّن لها أنه تغيّر كثيرا. ملامحه ليست هي تماما. هل ذلك بسبب حلقه لشعره أثناء ادائه العمرة بمكة؟ ربّما. لكنها سبق أن رأته حليقَ الرأس من قبل. شيء ما تغير في وجهه، توقفت كثيرا عند تبيّن ملامح وجهه. لقد باتت عيناه أكثر بريقا مما كانتا عليه، ووجهه أكثر وضاءة وإشْراقا. هل بسبب إقامته بالبيت المقدّس؟ بيت إبراهيم؟ بادرها بالقوْل وهي تنظر إليه: - لقد كانت هذه العمرة انتصارا كبيرا لنا. لقد انتصرنا بفضل اتحادنا وسلوكنا نحو بعضنا البعض. وقد أظرهرنا للمشركين بأن قوة الله لا تحتاج إلى سلاح لكي تنتصر. فالجهاد الحقيق هو جهاد النفس، جهاد داخليّ في القلوب. وبعد ذلك يسهل الانتصار على العدوّ. - عسلَ قلبي، هل أنت الآن بصدد القول بأنه لنْ تكون هناك حرب فيما بعد؟ - إن الله يأمرنا باتخاذ الحيطة والحذر. فإذا ما تعرّضنا للهجوم، لا بدّ لنا من الدفاع عن أنفسنا. أخذها وراء الحجاب إلى داخل مخدعها، وأزال الغُلالة التي تغطّي شعرها النحاسيّ الذي انسدل على كتفيْها وجسمها الأبيض هامسا في أذنيها: - عائشتي وزوجتي المفضلة، تعلمين أنك أحبك، كما تعلمين ما أشتهيه فيك. انحنت عائشة على فارسها المنهك الذي استسلم لكل اللمسات. همس بانتشاء كبير: - أنت الوحيدة، أنت الحقيقية?. أدابته بنفس الهمس: - شمسَ فؤادي، بعيدا عنك أعيش في ظلام دامس. لكنك الآن هنا معي، وصوتك ينعش عينيّ. قلْ لي بأنك سوف تحبّني إلى الأبد. - لا تخافي يا غزالتي، إن الله يرجعني دائما إليك، أنت المفضّلة?. ثم انبرى يشرح لها كيف أن رجل السلطة يحتاج إلى إقامة تحالفات جديدة، سياسية وقبَلية جديدة، ويحتاج إلى إقامة علاقة مع جيرانه من أجل اتقاء شرّهم وعداوتهم من خلال علاقات القرابة والمصاهرة أكثر فعّالية من المعاهدات والاتفاقيات المكتوبة1. ثمّ إنه رجل مثله مثل الآخرين، معرّض لكي يكون ضحية لغرائزه ورغائبه القوية. فكيف له أنْ يرى الجواري الجميلات يتنقّلْن أمام عينيْه، أو عندما تعرضْن أنفسهنّ عليه. من الصعوبة بمكان أن تكون له القدرة على المقاومة والصبر. غير أن هذه اللحظات العابرة لا تكتسي أهمّية كبرى. أنت الوحيدة.? - الطائر في السماء لا يترك أثرا. هزّت عائشة رأسها في حركة تشكيكية. ثم إن الأحداث التي ستقع فيما بعد ستكذّب هذا الاعتراف. أما الآن، فإن نشوة ونتائج العمرة والانتصار لا زالتا تثيران المزيد من الحديث داخل المدينة. خصوصا أن مكة والعديد من القبائل والعشائر المجاورة باتتْ تأتي جماعات وفرادى من أجل تقديم البيعة للرسول وللدين الجديد. كان هذا الفتح ما قبله شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر، حتى إنّ الرسول كان يقول: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ». غدا: عائشة تتألّم لوفاة زينب بنت الرسول ولحمْل مارية القبْطيّة 1 تجمع كتب السيرة والأخبار على أنّه إثر زواج محمد بميمونة بنت الحارث الهلالية ، أخت زوجة العباس عمه ، و خالة خالد بن الوليد والذي تولى العباس نفسه إنكاحه إياها ، ارتبط النبى بالمصاهرة مع جناحى مكة ، بنى أمية و بنى هاشم . فكان ذلك الزواج حافزا لخالد بن الوليد أن يسلم ، فأسلم و أهدى محمدا أفراسا له . و تبعه عمرو بن العاص و عثمان بن طلحة ، حارس الكعبة . و قد أسلم بإسلام هؤلاء كثيرون من مكة . فبات جناح محمد قويا فيها . و بات فتح مكة ميسورا سياسيا . وتضيف أن الدافع السياسى لزواج محمد من ميمونة ظاهر. لكن كان فيه نصيب أيضا للهوى و الجمال ، « و يقال انها هى التى وهبت نفسها للنبى. و ذلك أن خطبة النبى انتهت اليها و هى على بعيرها . فقالت : البعير و ما عليه لله و لرسوله . (المترجم).