لا يختلف اثنان في كون حكومة السيد عبد الإله بنكيران هي الآن في وضعية لا يحسد عليها. فهي غارقة في المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الأزمة العالمية. لكن أيضا ما زاد في الطين بلة، أن الحكومة تسير بدون أي أفق أو استراتيجية واضحة للتعامل مع هذه المشاكل. إننا أمام نوع من السياسة الهاوية وليس السياسة الاحترافية. ولذلك فإن كل المؤشرات تدل على أن المغرب هو مقبل على موسم سياسي واجتماعي ساخن، يدفعنا إلى طرح السؤال: أية آفاق سياسية تنتظرنا كفاعلين سياسيين؟ ما بدأ يلوح منذ الآن، أن هناك من شرع يتحدث أو حتى يخطط لما بعد حكومة بنكيران. فالسيناريو الأكثر تداولا في هذا الموضوع، أن يستمر الأمر في اتجاه التصعيد ضد هذه الحكومة، وبالخصوص الدفع بالتناقضات بين مكوناتها إلى حدود التفجير خاصة بين حزبي العدالة والتنمية والحركة الشعبية، أو بالموازاة مع ذلك بين أجنحة حزب الاستقلال، ثم محاصرة حزب التقدم الاشتراكية في المربع الضيق. آنذاك أن يبادر أحدهم إلى تقديم ملتمس للرقابة ضد هذه الحكومة قد تطيح بها، ومن تم تدخل البلاد في أزمة حكومية تتطلب تشكيل أغلبية جديدة كبديلة عن أغلبية بنكيران. وبطبيعة الحال أن يكون حزب الأصالة والمعاصرة هو المؤهل لقيادة ذلك الانقلاب مدعوما بحليفيه الأحرار والاتحاد الدستوري. غير أن هذا التحالف الجديد سيكون محتاجا بالضرورة إلى غطاء شعبي يبرر به فعلته هذه، وقد يكون للعب على ورقة الصراع بين جبهة الحداثة و جبهة الأصولية هو الغطاء المناسب لذلك. وهنا بالضبط مربط الفرس بالنسبة للاتحاد الاشتراكي بخصوص هذا السيناريو ، أن تستهوي هذه اللعبة البعض من داخله وينجر نحوها بدعوى أن لا أحد له الشرعية لأن يتكلم باسم الحداثيين في المغرب أفضل من الاتحاد الاشتراكي. لذلك كان من الواجب علينا أن نحذر منذ الآن، من مثل هذا اللعب بالنار، ونطرح السؤال بجدية: من له المصلحة فعلا ومن هو المستفيد الحقيقي من تفجير الحكومة الحالية؟ لا نعتقد من جهتنا، أن تكون هناك أية مصلحة للبلاد في هذا السيناريو وذلك للأسباب التالية: - أولا أن حزب العدالة والتنمية وبالرغم من كل اختلافاتنا معه، فهو قد وصل إلى ما هو عليه بفضل أصوات المواطنين، وبالتالي فهو يمتلك في ظل ما يسمح به الدستور الحالي كل الشرعية لأن يستمر في تدبير الشأن العام إلى حدود أن يقرر الناخبون غير ذلك. ولذلك فنحن إذ ندافع عن حقه, بل وواجبه في متابعته للتسيير الحكومي حتى النهاية، فليس حبا فيه ولكن احتراما للإرادة الشعبية. - ثانيا، أننا نحن فقط في الخطوات الأولى من تفعيل الدستور الجديد، ومن ذلك أن يتحمل هذا الحزب مسؤولية التسيير لما في ذلك من تمرين ديمقراطي للمواطنين في أفق تحقيق الفرز الضروري بين المشاريع السياسية المتنافسة، باعتبار أن ذلك هو أحد المداخل الضرورية للوصول إلى الديمقراطية. أما وأن تجهض هذه التجربة منذ الآن فذلك يعني خلط الأوراق من جديد، والعودة إلى نقطة الصفر، ومن تم تضييع سنوات أخرى من التيه والضبابية في الرؤية السياسية لدى عموم المواطنين. - ثالثا، أن هذه التجربة قد أتاحت لأول مرة للإسلاميين أن يتحملوا مسؤولية تسيير الشأن العام، وهو ما يعني انتقالهم من موقع الترديد والمزايدة بالشعارات الفضفاضة، إلى مواجهة القضايا الحقيقية للمجتمع, وهو ما يضعهم وجها لوجه أمام المواطنين مما سيرفع عنهم أمام تعقد المشاكل المطروحة، تلك العذرية التي كانوا يتخفون وراءها في حملاتهم الانتخابية. إما إذا ما تم الانقلاب عليهم، فذلك سينتج عنه العكس، بأن يتحولوا أو يقدموا أنفسهم كضحايا أمام الرأي العام فيعطيهم الحجة لأن يعيدوا التلويح بتلك الورقة القديمة أن الحل هو في الإسلام، وأن أعداء الإسلام لا يريدون ذلك. - رابعا، أن هذه التجربة إذ أوصلت جزءا من الإسلاميين إلى الحكومة، فقد ترجم ذلك بتعميق الخلافات بينهم، وتحول طرف منهم أكثر فأكثر نحو الاعتدال والواقعية السياسية في مقابل المزيد من عزل الأكثر تطرفا من بينهم. أما إذا ما تمت الإطاحة بهم، فبالتأكيد أن الخلط سيعود من جديد وسطهم وتتراجع تناقضاتهم إلى الوراء. وسيسمح ذلك للمتطرفين منهم سواء من العدل والإحسان أومن السلفيين أو حتى الجهاديين للعودة للاستقواء على المعتدلين منهم، وبالتالي الدخول في دوامة من الفوضى قد تكون لها عواقب غير مرغوب فيها بالنسبة لاستقرار البلاد. غير أنه بالمقابل، إذ نحن نعارض أي توجه يريد إقحام الاتحاد الاشتراكي في أي سيناريو مشبوه من هذا النوع، قد يقوده الأصالة والمعاصرة، لا يعني أننا ندافع أو نريد مهادنة حزب العدالة والتنمية في تدبيره للشأن العام. بل إن معارضتنا له والفضح المنهجي لقصوره في مهمته هذه، كما يمارسها مثلا فريقنا في البرلمان، إنما يجب أن تتقوى وتساهم في الكشف عن حقيقة عجز الأصوليين عامة والعدالة والتنمية خصوصا في التعامل مع المشاكل المطروحة. وهو ما يمثل تدريبا بيداغوجيا للمواطنين على ممارسة السياسة بمعناها الملموس والتمييز بينها وبين الشعارات العامة والوعود غير القابلة للتطبيق. إننا لنا بالفعل خلافات مرجعية عميقة مع هذا الحزب خاصة فيما يتعلق بالقيم الكونية والحريات الفردية، لكن ذلك لا يجب أن يحجب عنا أن لنا خلافات أيضا، ربما أعمق مع حزب الأصالة والمعاصرة ، باعتبار أن هذا الأخير ليس في آخر المطاف سوى امتداد لسياسة الدولة القديمة الرامية إلى الاستحواذ والتحكم في الحقل السياسي، ومع ما يصاحب ذلك من عرقلة لأية خطوة نحو إقرار الديمقراطية، والتستر على رموز الفساد الذين طالبت حركة 20 فبراير بمحاكمتهم. فنحن لا زلنا نختلف مع هذا الحزب الأخير جذريا في مطلب الملكية البرلمانية، و في ضرورة القطع مع بقايا المخزن داخل الدولة، ولا أدل على ذلك الخلاف من سكوت برلمانيي هذا الحزب مثلا، حين مناقشة قانون التعيين في المؤسسات العمومية، ذلك لأنه هو في الحقيقة من أكبر المدافعين عن الملكية التنفيذية في صيغتها القديمة وعن ترك كل الصلاحيات في يد الملك. كما أنه بقي صامتا أيضا حين إثارة الفريق الفيدرالي في غرفة المستشارين مطلب الضريبة على الثروة، ما دام أنه هو موجود في الأصل للدفاع عن مصالح أصحاب الثروات. ولذلك فلا التحالف مع هذا الحزب الأخير ولا مهادنة العدالة والتنمية ستكون في مصلحتنا، بل أن البلاد نفسها هي في حاجة إلى فرز قوة ثالثة تحد من سطوة هذين المكونين لا على أجهزة الدولة ولا على المجتمع، وتساهم فعلا في فتح الأفق على المستقبل. ولن تكون تلك سوى قوة المعسكر التقدمي والديمقراطي واليسار عموما. غير إن إعادة تشكيل هذه القوة داخل المجتمع، يفترض أن يتخلص البعض منا من منطق الهرولة والتكتيكات الصغيرة، التي لا تخدم في الأخير غير المصالح الشخصية لأصحابها، وأن نتبنى بدل ذلك رؤية استراتيجية تمتد على مدى ولاية أو ولايتين من الزمن التشريعي، نعطي فيها الفرصة لأنفسنا من جهة لإعادة ترتيب بيتنا الداخلي وتجديد خطابنا ونخبنا، ومن جهة ثانية لإعادة فتح قنوات الارتباط والتواصل من جديد مع مختلف فئات المواطنين. ذلك هو السبيل الوحيد الذي قد يعيدنا إلى واجهة الفعل السياسي في بلادنا.