نيتشه في إحدى شذراته، أعلن بالإنفعال المعهود فيه، وجُوب حرق الكتب التي كُتبت في المكاتب المظلمة، لأنها وُلدت أصلا ميتة، وإلا فلا كتاب يستحق القراءة، غير تلك الكتب التي خطها أصحابها، ومدادها ممزوج بعرقهم ودمهم ومعاناتهم وفرحتهم، والأوكسجين يملأ أجسادهم ويدفعهم للحياة والترقي. هذه الشذرة التي تقسم الكتابة إلى حية وأخرى ميتة، ما كان صاحبها ليتوقع، أن يأتي على الإنسان زمان كهذا، لن يكتب فقط في معزل عن الأوكسجين والعرق والجسد، بل وأيضا أن يحب ويضحك ويصرخ ويُقبل ويصادق ويخاصم ويسكن وراء شاشة شاحبة، ينعكس شحوبها على وجهه وحياته مع الوقت. في موقع كالفيس بوك مثلا، ستجد الضحكة تصير (ههه)، والقهقهة تتحول (هاهاها)، والتأمل يُمسخ (اممم)، والقُبلة تتحول رسما مصغرا لفم مطلي بأحمر الشفاه، ولما يشتد على سكان ذلك الموقع الشوق والرغبة، تتكرر الرسوم والكلمات، كأن يوضع مئة مسخ فم، أوخمسون ضحكة صفراء لمجسم أجذع الأنف.. لا إحساس يُفترض سوى الرثاء، تجاه أولئك الذين تجدهم من شبابنا (عدد المشتركين المغاربة في موقع الفيس بوك هو خمس أو ست ملايين مشترك)، في الفيس بوك يوميا ومتى عُدتَ تجدهم هناك، لا هم يهتمون بأجسادهم، ولا هم كنيتشه يتخذون الكتابة ذريعة للحياة والشره إليها، يفرحون بتأشيرة الإعجاب (جيم)، بقدر ما يُفترض أن يبتسموا لإبتسامة حسناء، ويحسون بدوخة الإمتلاء لما تعلق بكلمات إعجاب صاحبة صورة، قد تكون قبيحة في الواقع، أو «يكون» ذكرا سرق صورة، ويدعي أنه الأنثى صاحبة صورة الحسن. الأمر في شق منه، كأولئك الذين (كانوا) يسكنون بين الكتب، وكان في التراث يتم تعزيرهم وضربهم بقوة ساعة يحكم عليهم الناس بأنهم يبدون هائمين لوحدهم، بعيدين عما يحيط بهم.. هناك في الفيس بوك، لا شيء يجلب اللايكات أكثر من التعري والتشفي، مثلا صورة لصبية تعري النصف الأعلى من صدرها بدهاء، - قد تكون قبيحة جدا في واقع كلية جسدها-، أو تأشيرة انتهاء اضطراب الغراميات بالزواج، إعلان الزواج نفسه الذي كان إلى وقت قريب بالحفلات والرقص والمأدبات والشيخات والفقها، أصبح كافيا (نظريا) أو يكاد، لتتمة الشرط الأهم في الزواج، التأشير على تزوج فلان بفلانة، فيكتب الأصدقاء كلمات محايدة من العناق والدموع والملامح، أو يكتفوا بوضع (جيم) فارغة. شباب الفيس بوك، «المدمن» منه بخاصة، يدفعك لأن ترغب بشدة في الصراخ في وجهه وأنت تخضه: «يا أصدقائي الحياة أجمل من أن نبدرها في المُفارق والصامت والمحايد، الحياة طعم لحم ورائحة فاكهة وملمس خد، وصرخة صدق وقفزة جدار... قبِلُوا وعضوا واشتموا واقفزوا وأصرخوا وأعووا.. واحذرو أن تهرب منكم وأنتم تتلهون على جدار افتراضي لكائن افتراضي، أو صفحة كلمات ميت قروسطي.. »