هذه المقالة هي رد على قرار لصوص السلطة السورية إيقاع الحجز الاحتياطي على أموالي المنقولة وغير المنقولة، وكذلك أموال زوجتي وأولادي. وهو قرار يلقي أضواء ساطعة على معنى الإصلاح كما يمارسه النظام، وعلى حدوده والغرض الحقيقي منه، الذي كان دوماً وما زال إكمال آلة القمع بمدوّنة شبه قانونية وتدابير عملية تحافظ على بنية نظام تقادم ولم يعد بالإمكان تسويقه في صورته الشمولية الفظة، لذلك يتم تغليفه بين حين وآخر بغلالة من قرارات وإجراءات ظاهرها قانوني، لكنها ليست في حقيقتها قانونية ولا تمت لأي قانون بصلة، لأنها تستخدم دوما لأغراض تخدم مآرب حكام يكرهون شعبهم، ولا تخدم نظاما قانونيا أو قضائيا مستقلا، منها مثلا إلغاء قانون الطوارئ بعد بداية الثورة واستبداله بقانون لمكافحة الإرهاب، قيل يومها إنه لن يستعمل لأغراض ومقاصد سياسية داخلية تتصل بضبط المجال السياسي السلمي والحزبي السوري، وها هو يستخدم اليوم لحجز أموالي المنقولة وغير المنقولة، أي راتبي التقاعدي الذي يصل إلى مبلغ خرافي، هو مئتان وسبعون دولارا أميركيا في الشهر، بينما حجز على أموال أولادي، الذين يبلغ أصغرهم الثانية والثلاثين من العمر، وهم مستقلون بقوة القانون عني، ولهم شخصياتهم التي يمنع النص الدستور السوري إيقاع عقوبات جماعية عليها، لأن المسؤولية فيه فردية وشخصية ولأنه «لا تزر وازرة وزر أخرى» في أي فقه دستوري، لكن الإصلاحيين في السلطة يطبقون علينا مدونات إسرائيلية لا ترى فينا أشخاصا قانونيين، بل إرهابيين يلدون إرهابيين، فلا بد أن تكون العقوبات التي تقع عليهم جماعية تطاول أولادهم وأزواجهم إلى سابع جد. كنا بقانون طوارئ لا يبيح اتهام المعارض المسالم بدعم الإرهاب، فصرنا بقانون مكافحة إرهاب يعتبر السلوك الذي كان في قانون الطوارئ جريمة عادية يعاقب عليها بالحبس من عام إلى ثلاثة مثل «إضعاف الشعور القومي» عملا إرهابيا يحكم على مرتكبه بالسجن لمدة عشرين عاما. يعني هذا أنني كمتّهم، بإضعاف الشعور القومي، لن أفقد فقط راتبي التقاعدي، بل سأحكم بعشرين عاما على جرم حكمت عليه العام 2006، قبل الإصلاح القانوني الذي أنجزه بشار الأسد، بالسجن لثلاثة أعوام، وسط اعتذارات من القاضي الذي أصدر الحكم واعتبره ظالما، لأن المخابرات فرضته عليه، على حد قوله لأكثر من صديق وفي أكثر من زمان ومكان. والآن: ماذا يعني أن يطال الحكم أولادي؟ يبين هذا السؤال بجلاء ما بعده جلاء طبيعة النظام الاستبدادي الذي يحكم سوريا بقوانين لها فعل المدافع والدبابات والطائرات التي تدمر المدن والقرى السورية منذ أكثر من عام ونصف العام، والتي أكد الاسد في آخر لقاء له أنها أسلحة تابعة للمعارضة وليست للسلطة، عندما نسب تدمير البلاد إلى «عصابات مسلحة»، أي إلى جماعات تابعة للمعارضة، في عملية قلب للحقائق يستحيل أن يصدقها عاقل، أو أن تخطر ببال عاقل. ما علينا. عندما يعتقل مواطن في سوريا الأسد توجه إليه تهم يتعمد النظام أن تكون مهينة وماسة بكرامته الوطنية، فإن كان من القائلين بضرورة تحرير الجولان اتهم ب«التخابر مع العدو»، وان كان مطالبا بالعدالة الاجتماعية كانت تهمته «معاداة النظام الاشتراكي»، وان طالب بالحرية اتهم ب«مناوأة الدولة»، وان كان من جماعة الوحدة العربية اتهم ب«إثارة النعرات العنصرية والطائفية»، وإذا كان ديموقراطيا اتهم ب «إضعاف الشعور القومي وإيهان نفسية الأمة»، وإذا كان لا هذا ولا ذاك اتهم ب «الإرهاب» . ينضوي المواطن في نظر السلطة ضمن واحد من سياقات ثلاثة تحدد مدة الحكم عليه، فإن كان شخصا يصلي في المسجد اعتبر «بيئة إسلامية «، مواطنا قد يتعاطف مع الإسلاميين، فإذا ما اعتقل عومل كإسلامي، وان التقى في المسجد أحدا تبين أنه من الإسلاميين أو المتهمين بالأسلمة اعتبر «صلة»، وكانت عقوبته على العموم أشد من عقوبة «البيئة». أخيرا إذا كان في حزب أو متهما بانتمائه إلى حزب اعتبر «منظما» تلقى العقوبة القصوى، التي تكون دائما انتقامية وثأرية وكيدية. لنفترض أنه لم يذهب إلى المسجد ولم يلتق أحدا ولم يكن إسلاميا، وإنما تعرف قبل عشرين أو ثلاثين عاما على شاب في مثل عمره تناول معه طعام الغداء في مطعم ما أو بات ليلته عنده، ثم تبين أن هذا الشاب انتسب في ما بعد إلى حزب سياسي معارض، فإن مجرد اعتراف الاخير، الحزبي، بأنه عرفه ذات يوم يكفي لاعتباره بيئة أو صلة، حتى إذا لم يعاود الاتصال به ولم يقابله ولو مرة واحدة، ولزجه في السجن لفترة قد تصل إلى خمسة عشر عاما، كما حدث لشباب عرفوا قبل سنوات كثيرة زملاء جامعيين انتسبوا في ما بعد إلى حزب معارض. لقد أمضى بعض هؤلاء خمسة عشر عاما في السجون بتهمة أنهم «بيئة» أو»صلة». عندما يفر شاب متهم بإحدى هاتين التهمتين من الاعتقال، يتم اعتقال أطفاله أو زوجته أو والده أو أحد إخوته لإجباره على تسليم نفسه، وكم سمع السجناء في فرع التحقيق العسكري أصوات نساء هن بنات أو زوجات أو أخوات أشخاص فروا إلى خارج البلاد، لكنهن أمضين سنوات تصل إلى أكثر من عقد في زنازين هذا الفرع، بحجة إجبار أزواجهن أو آبائهن أو إخوتهن على تسليم أنفسهم، وكم تم الاعتداء عليهن وامتهنت كرامتهن واغتصبن بل أنجبن من أطفال! والآن، وعندما يأتي ظرف يحتم إطلاق سراح المعتقل، يتم تقديمه إلى المحاكمة، بعد أن يكون قد أمضى سنوات كثيرة في السجن. لنفترض أنه «نام» أربعة عشر عاما وأربعة أشهر دون أن يحاكم، مثلما حدث لجماعات كثيرة، وأن النظام وجد نفسه مرغماً على إطلاق سراحه، فإنه يقدم عندئذ إلى جلسة محاكمة واحدة يصدر عليه خلالها حكماً بالحبس لفترة أربعة عشر عاما ونصف عام، وبعد أيام يصدر عفو رئاسي عنه تحتفي صحافة السلطة به بضجيج صاخب، وهي تمتدح «عظيم الأمة»، الذي عفا عنه رغم ما ارتكبه من جرائم! في هذه الحال، يبدأ رجال الأمن الذي كانوا يتهمونه إلى البارحة بالخيانة ويوجهون إليه الإهانات، بامتداح وطنيته والحديث عن سجنه باعتباره سوء تفاهم بين أبناء الصف الوطني الواحد، ويذكرونه بأن عليه نسيان ما لحق به من ضرر وإهانات، ويطلبون منه إرسال برقية شكر للرئيس الذي أعاده إلى أسرته وسامحه على جرائمه. اخيرا، يعرض عليه التعاون مع الأمن والتحول إلى مخبر، ويحذر بلغة لا لبس فيها، من العودة إلى صفوف حزبه، لأن المرة المقبلة ستكون أشد من الأولى. هذا النظام الذي يتهم بدعم الإرهاب مواطنين لا ذنب لهم، غير أنهم أولاد معارض سلمي، فيصادر أموالهم وممتلكاتهم ويمكن ان يحكمهم بالسجن لمدة تصل إلى عشرين عاما، والذي قدمت لمحة فقيرة جدا ولا ترقى بأي حال إلى مستوى ممارساته، دون ان أعرّج على طرق التعذيب والتصفية في أقبية مخابراته ومعتقلاته وسجونه، هو الذي جعل الشعب السوري يفضل الموت على مواصلة العيش في ظله، وتسبب في ثورة الحرية، التي لن يجد علاجا لها غير تدمير مدن وقرى سوريا وتقويض مجتمعها ودولتها. لا يتفق النظام السوري مع أي شيء طبيعي أو قانوني. إنه نظام مخالف للطبيعة وسيزول حتما، لسبب رئيس، هو فشله في طبع شعب سوريا بطابعه المخالف للطبيعة الإنسانية، وإخفاقه في استزراع مفاهيمه المناوئة لهذه الطبيعة في نفوس مواطنين بدأوا يستردون حياتهم الطبيعية من خلال ثورتهم، التي لن تخلصهم فقط من حكمه الشاذ، بل ستردهم كذلك إلى طبيعتهم السمحاء وروحهم السامية، وستحول دون عودتهم الى نظام غير استبدادي كالذي يقضون اليوم عليه، بذلك الثمن الفادح والجسيم، الذي تقشعر له الأبدان!