ليست مبالغة القول إن المواطنين العرب، وفي مختلف ديارهم، مشرقاً ومغرباً، ينتظرون في قلب اللهفة، أن تعود الى مصر روحها، بفضل «الميدان» الذي احتضن الثورة، وأن ترجع مصر الى دورها الذي لا غنى عنه ولا بديل منه في أمتها وفي محيطها. من هنا استبشار العرب بالإعلان عن مشاركة مصر في القمة المقررة لمجموعة دول الانحياز التي ستبدأ أعمالها غداً في طهران، وإن كان البعض قد حاول التخفيف من «وقع» هذا الخبر، بالإعلان أن مشاركة الرئيس محمد مرسي ستكون «بروتوكولية»، ولن تمتد لأكثر من خمس ساعات. بل لقد وجد من يحاول «تبرير» هذه المشاركة بكون القمة السابقة لهذه المجموعة قد انعقدت في القاهرة، وبالتالي فإن هدف الزيارة إتمام مراسم التسلم والتسليم، حسب الأصول، ومن دون التوغل في مناقشة المواقف السياسية. ولافت للنظر أن تكون الإشارة إلى زيارة الرئيس المصري طهران قد صيغت بلهجة اعتذارية، وكأنه يرتكب إثماً. في السياق ذاته، تلقى العرب بالترحيب خبر الاقتراح المصري بلقاء رباعي يضم، الى مصر، السعودية وإيران وتركيا، لمناقشة الأوضاع المتفاقمة خطورة في سوريا والتي ينذر تدهورها بتفجر حرب أهلية مديدة قد لا تنحصر أثارها المدمرة داخل الكيان السوري بل هي قد تمتد إلى جيرانها في الشرق والغرب والشمال، وكلها مهدد في أمنه واستقراره بسبب التداخل والتواصل بين المكونات المتشابهة لشعوبها. إن عودة مصر إلى دورها القيادي الطبيعي في وطنها العربي، ثم في محيطها الأفريقي ومن ثم في العالم الثالث عموماً، هو خبر سعيد لطالما انتظره أهلها العرب والأصدقاء في أفريقيا وآسيا. وبين ما تشرف به القاهرة أنها كانت صاحبة دور رائد في تنبيه عالم الشعوب، في آسيا وأفريقيا، الى ضرورة التلاقي والتكاتف لبناء قوة خارج المحورين اللذين كانا يتقاسمان النفوذ والهيمنة على سائر أنحاء العالم. من باندونغ في أندونيسيا في العام 1955، بدأ تجسيد الفكرة التي اقتربت من التبلور كمشروع سياسي مستقبلي عبر حركة التضامن الشعبي الواسع مع مصر في أعقاب العدوان الثلاثي عليها، الذي شنته دولتان من دول الاستعمار القديم (بريطانيا، وفرنسا) ومعهما إسرائيل. ومع مطلع الستينيات تم التلاقي مجدداً في نيودلهي, حيث تجسدت الفكرة مشروعاً قابلاً للحياة، فإلى القاهرة حيث تأكدت جدارة القوة العالمية الثالثة ممثلة بدول عدم الانحياز التي انتظمت في مجموعة لها أهدافها الخاصة ولها مواقفها المميزة النابعة من إرادتها والمحققة لمصالحها. كانت مصر مركزاً قيادياً مؤثراً، وبالتأكيد فإن الشخصية الاستثنائية لجمال عبد الناصر، بالهالة الشعبية التي كانت تحيط به قد لعبت دوراً مركزياً في قيادة هذه المجموعة التي سرعان ما صارت قطباً دولياً له كلمته المؤثرة في مختلف شؤون العالم الدولية، وبالذات منها ما يتصل بمصالح الشعوب في آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا، حتى لا ننسى الدور التاريخي الذي لعبه قائد يوغسلافيا جوزيف بروز تيتو. ولعل الجلسة التاريخية التي لا تنسى للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في خريف العام 1960، قد اكتسبت أهميتها الاستثنائية من المشاركة الواسعة لأقطاب التكتل الدولي الجديد، مما استدعى حضور الرئيس الاميركي جون كنيدي والقائد السوفياتي الأشهر نيكيتا خروتشوف الذي أقدم على مبادرة لا تنسى حين أخذ يقرع بحذائه على الطاولة, بينما بعض أزلام الغرب يتحدثون بطلاقة عن الحرية وعن السياسة الاستعمارية التي يعتمدها المعسكر الشيوعي. صارت القاهرة مركزاً مؤثراً في السياسات الدولية، إضافة إلى تشكيلها قيادة مهابة للوطن العربي جميعاً، بفضل شخصية رئيسها الاستثنائي جمال عبد الناصر ووعيه - منذ البداية - خطورة دور مصر في وطنها العربي ومحيطها الأفريقي، ومن ثم في العديد من أقطار آسيا التي كانت تناضل من اجل استقلال قرارها وكرامة شعوبها وحقها في حياة عزيزة فوق أرضها الحرة. على ان هذا التكتل الرائد الذي لعب دوراً مؤثراً في السياسة الدولية سرعان ما أصابه الوهن بعد اغتيال الزعيم الهندي الكبير جواهر لآل نهرو، ومن ثم الغياب المبكر لجمال عبد الناصر. ثم جاءت وفاة القائد الذي اصطنع يوغسلافيا، الماريشال تيتو، لتنهي وجود هذه الدولة التي استولدها من العدم، والتي تمزقت إرباً اثر غيابه. ولقد تسبب انحياز الرئيس الراحل أنور السادات إلى الولاياتالمتحدة، التي رأى أنها تملك 99 في المئة من الأوراق، ثم إقدامه على وقف حرب رمضان المباركة قبل أن تنجز أهدافها، متخلياً عن شريكه السوري فيها، مندفعاً إلى مصالحة عدوه الإسرائيلي، الى خروج مصر من موقعها ومن دورها ومن مكانتها المميزة. بعد ذلك توالت الانهيارات في هذا المعسكر المؤثر، حتى كاد يفقد دوره ورسالته الدولية، لا سيما بعد سقوط الشيوعية وعودة روسيا الى حدودها القيصرية، وتفتت «المعسكر الاشتراكي العظيم» إلى دول فقيرة تبحث لنفسها عن ملجأ فلا تجد إلا الهيمنة الاميركية وتجبر أشقائها الأغنياء في أوروبا، وفي الطليعة منهم المانيا. هل من فرصة اليوم لإعادة بناء ما تهدم وبعث هذه القوة العالمية الثالثة لتلعب دورها المفتقد، خصوصاً وقد انفرد القطب الاميركي بالقرار وباتت واشنطن تتحكم - منفردة - بمختلف الشؤون الاقتصادية والسياسية والعسكرية وحتى الثقافية التي تخص سائر الشعوب في أربع رياح الأرض؟ لقد اختفى «العرب» كقوة يحسب لها حساب في السياسة الكونية: ارتدت قياداتهم المتنازعة والمتهالكة إلى «الداخل» حيث مارست أكثريتها المطلقة سياسة قمع غير محدود لشعوبها، محولة الجمهوريات الفقيرة إلى «إقطاعيات» للرؤساء الذين منحوا أنفسهم صلاحيات تتجاوز قدرات المخلوق، جاعلين من ذواتهم «آلهة» لا تخضع لأي محاسبة. أما «الرعايا» في هذه الدول، التي تحولت إلى إقطاعيات مملوكية، فقد هرب الأكفاء وأصحاب الخبرات منهم الى الخارج يبحثون عن الرزق مع شيء من الكرامة، يبيعون قدراتهم للغير ممن كانوا- ذات يوم- في موقع العدو... ولم يتبق في البلاد إلا العاجزون عن الخروج منها، والذين اضطرتهم ظروفهم الشخصية الى الاستسلام يأساً والاعتكاف في بيوتهم، والتحول الى رعية تؤمر فتطيع او تفكر بالتمرد فتعتقل بلا محاكمة وتسجن دهراً... ولقد مات كثيرون من أصحاب الكفاءات المميزة في السجون والمعتقلات، في حين تم إخراج العديد منهم، في اللحظات الأخيرة، ليموتوا في منازلهم، أو ليعيشوا أيامهم الأخيرة فيها فيكونوا عبرة لمن يعتبر. ومؤكد أن تغييب الشعوب وحصر القرار في يد رئيس فرد توسعت صلاحياته حتى كادت تشمل مختلف شؤون الحياة والقرار بالموت، قد أساء الى صورة «الدولة» في هذه المنطقة من العالم فشحبت حتى كادت تتلاشى، خصوصاً أن «الفرد» فيها بات يغني عن المؤسسات جميعاً، التشريعية والإدارية، القانونية والعسكرية. صار القرار في كل دولة عند فرد واحد لا شريك له، فانتفت قيمة الدولة... وماذا يمكن أن تكون دولة تلك التي يلخصها ويختصرها فرد واحد. ذلك أن التلاقي بين الدولتين القطبين، كل في محيطها، مصر وإيران، سيشكل جسر عبور الى مرحلة جديدة من مراحل النضال من اجل توكيد الحق بالقرار في ما يعني شؤون هذه البلاد التي استطال قهرها سواء بالاستعمار ام بالدكتاتورية ام بالفقر الذي هو نتيجة المزاوجة بينهما. لقد مرت مياه كثيرة في نهر العلاقات بين هاتين الدولتين الكبيرتين والمؤثرتين، بموقعيهما في التاريخ وفي الجغرافيا... ويفترض أن ينتهي زمن القطيعة، حتى ولو لم تتوقف المنافسة بينهما. وأفضل إطار لتصحيح العلاقة بينهما هو استذكار «الآخر»، وبالتحديد القوى العظمى التي بات يمكن اختصارها بالهيمنة الاميركية على القرار الدولي. إن مساحة اللقاء في المصالح بين هاتين الدولتين المحوريتين أوسع بكثير من نقاط الخلاف او الاختلاف الإيديولوجي، او التنافس على الدور في المحيط... وأية مساحة للتفاهم ستقتطع من حساب الهيمنة الأجنبية، وليس من رصيد الدولة الأخرى، ولا خاصة من رصيد الدول المخضعة للهيمنة الأجنبية. إن قمة عدم الانحياز في طهران مرشحة لأن تكون نقطة تحول في السياسة الدولية، إذا أحسن قادة الشعوب الثائرة على الطغيان والباحثة عن مستقبلها الأفضل الإفادة منها للتوجه الى توفير الضمانات لغد أفضل بدلاً من الغرق في حساب متأخر لأخطاء الماضي، وهي كثيرة ولكنها متبادلة... ثم إن مراجعتها لن تفيد إلا في تشويه المستقبل. المهم ان مجموعة دول عدم الانحياز تباشر عودتها الى الحياة، بعد ان أسقطت الشعوب عدداً كبيرا من الطغاة وحطمت أنظمة الفرد الواحد في دولا كثيرة، ورجعت شعوبها الى الميدان ترفع الصوت مطالبة بحقها في ان تكون شريكة في القرار، بل ومصدره حصراً. وها هي هذه المجموعة تتلاقى لمؤتمرها الجديد في طهران، ولسوف تكون مفاجأة طيبة أن يشارك في هذه القمة مجموعة الدول العربية وقد أسقطت شعوبها الطغاة فيها واستعاد الشعب حقه في القرار وفي رسم السياسات، باستقلال عن قوى الهيمنة الأجنبية في الخارج وعن قوى الطغيان في الداخل. بهذا المعنى سيكون «العرب»، مرة أخرى، ومصر في الطليعة منهم، عنصر تفعيل لهذه المؤسسة العريقة، مؤتمر عدم الانحياز، بعد غياب طويل عنها أضعف قرارها وحولها الى مؤسسة عجوز متهالكة، لا دور لها عملياً، حتى غدت المشاركة في لقاءاتها شكلية، أهم إنجازاتها الصورة الجماعية لهؤلاء المنحازين بالقهر آو بالأمر الذين يقفون مبتسمين بينما شعوبهم تعرف تماماً لمن يعطون ولاءاتهم، ومن هو صاحب القرار الفعلي في حضورهم ولأي غرض حضر. وإنها لمصادفة أجمل من ميعاد أن تتلاقى القيادة الجديدة في مصر مع القيادة المضيفة في طهران، في اطار تجديد الدور لهذه المجموعة من دول عدم الانحياز، بهدف تثبيت إرادة «العالم الثالث» وإشراكه في القرار الدولي بما يحفظ كرامة شعوبه التي قدمت مواكب الشهداء من اجل انتزاعها استقلال إرادتها واتخاذ المواقف التي تناسب مصالح شعوبها. غير أن المراقب يخرج أيضا بعدد من الملاحظات من متابعته للأزمة، أسبابها وسبل العلاج الموصوفة لها، قد تكون لها آثار غير مباشرة على جانب كبير من الأهمية لتنظيم العلاقات الدولية، وفى القلب منها العلاقات الاقتصادية الدولية. لقد ضربت أزمة منطقة اليورو بلدان جنوب أوروبا، أى شمال البحر المتوسط، وأيرلندا. الأزمة ضربت اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وأخيرا قبرص، فضلا على أيرلندا، وهى تهدد فرنسا ذاتها. الأسباب المباشرة للأزمة تختلف فى كل بلد عن الآخر، ولننظر بشكل مبسط فى مثالى اليونان وإسبانيا. الأزمة فى اليونان ترجع إلى العجز الهائل فى الميزانية، وفى ميزان المدفوعات، وإلى ارتفاع حجم الدين العام الخارجى، وبالتالى ارتفاع خدمة هذا الدين، و العجز قديم أخفته الحكومات اليونانية المتعاقبة عن اليونانيين، وعن شركائها فى الاتحاد الأوروبى. العلاج المباشر والعاجل للأزمة فى اليونان كان إقراضها ما يربو على المائتى مليار يورو على دفعات لكى تستطيع خدمة دينها وحتى لا تلجأ إلى السوق الدولية الخاصة التى ترتفع أسعار الإقراض فيها. أما فى إسبانيا، فلم يكن ثمة عجز بل حققت المالية العامة فيها فائضا فى بعض سنوات ما قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم يكن دينها العام الخارجى أو الداخلى مرتفعا. الأسباب المباشرة للأزمة فى إسبانيا ترجع إلى التهديدات الخطيرة المحيقة بالجهاز المصرفى فيها من جراء انكشافه الناتج عن إقراضه الهائل للقطاع العقارى فى نهاية التسعينيات من القرن العشرين وفى السنوات السبع الأولى من القرن الجديد. عندما انهار الطلب على العقارات الذى صاحب، أو كان من أسباب، الأزمة الاقتصاية العالمية فى سنة 2008، استحال على المصارف الإسبانية تحصيل الفوائد على قروضها، فانعكس ذلك على إقراضها للمنشآت، فانكمش الاقتصاد، بل وثار شك فى قدرة الجهاز المصرفى على الوفاء بطلب المودعين إن أرادوا سحب ودائعهم. العلاج المباشر والعاجل الأول فى حالة إسبانيا كان إقراض جهازها المصرفى مائة مليار يورو يصحح بها أوضاعه لكى يعاود إقراض النشاط الاقتصادى فيستعيد الإقتصاد الإسبانى عافيته، وحتى يطمئن المودعون إلى ودائعهم فلا يتدافعون إلى سحبها. يهمنا النظر فى الشروط المصاحبة للقروض الممنوحة لليونان وإسبانيا. جوهرها هو التقشف ومزيد من التقشف ليمكن فى رواية القضاء على العجز، والعودة إلى التوازن بين الإيرادات والمصروفات، والاستغناء عن الإقتراض، وتمكين الاقتصاد من النمو من جديد على أسس سليمة، وفى رواية أخرى ليمكن تسديد الديون المستحقة للقطاع المصرفى الدولى الخاص، وكثير من وحداته تقع فى ألمانيا المتشددة فى فرض شروط التقشف. على أى حال انهالت الشروط على اليونان، استغناء عن الموظفين العموميين، وتخفيضا للأجور والمعاشات التقاعدية، ورفعا لسن التقاعد، وحدا من إعانات الضمان الاجتماعى، واقتصاصا من الإنفاق على السياسات الاجتماعية، وإلغاء للإنفاق على البنية الأساسية، فضلا على خصخصة المرافق الأساسية. لايملك المراقب إلاَ أن يتساءل كيف يمكن للإقتصاد اليونانى بعد هذه الإجراءات التى تخنقه أن ينشط وأن يخلق فرصا للعمل وأن يولد الفائض الضرورى لخدمة ديونه.