والدولة المدنية، هي دولة تقوم أساسا على الفصل بين الدين والدولة والدين والسياسة المفهومان المتعلقان بالدولة الدينية، والدولة المدنية ظهرا في الغرب الأوروبي فهما يرتبطان بتاريخه وبتطور ذلك التاريخ في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية. والدولة الدينية هي تعبير آخر عما عرف في الأدب السياسي الغربي خصوصا الدولة التيوقراطية. ويعني ذلك بناء على مغزى العقيدة التيوقراطية المرتبطة بالدين، في ذلك الوقت كما نشأت في الغرب الأوروبي، وكما تبلورت على يد عدد كبير من المنظرين والوجوه الأكثر شيوعا هو ما يعرف بالحق المقدس للملوك في عبارة، وما يعرف بالحق الإلهي في عبارة أخرى. الحق المقدس للملوك أو الحق الإلهي للملوك، قضية ترجع إلى تقسيم عرفه الوجود السياسي والثقافي الأوروبي بين الوجود الزمني والوجود المدني، وبين السلطة الدينية التي هي سلطة لا مدنية والسلطة المدينة التي هي غير دينية. وانتقل من هذا الطرح لأقول أن العقيدة الديمقراطية تقوم على أربعة مبادئ أساسية. المبدأ الأول فيها هي أن السلطة السياسية سلطة أبوية، فيها العلاقة بين الحاكم والمحكوم من جنس العلاقة بين الأب والابن إلى أن يبلغ الابن يوما ما سن الرشد القانوني، في حين أن مفهوم السلطة السياسية على أنها سلطة أبوية ، لا يبلغ الفرد فيها سن الرشد أبدا.لأن الأمر يرجع إلى المكون المسيحي الأكبر، وهو أن الإله يعتبر أبا للبشر، ففي الصلوات عند المسيحيين تسمعين دائما: « أبانا الذي في السماوات» . والبشر في العقيدة المسيحية أبناء الله. فالسلطة السياسية في هذا المنحى هي سلطة أبوية من جنس العلاقة التي تقوم بين الإله وبين البشر حيت تصبح السلطة السياسية بهذا المعنى سلطة مطلقه، لا حدود لها وثالثا أنها مادامت أبوية وإلهية، فشيء طبيعي أنها سلطة مقدسة. ويتعلق المبدأ الرابع في صفة هذه السلطة، مادامت أبوية ومقدسة و مطلقه أنه لا يجوز الاحتجاج عليها أو الوقوف في وجهها.ويقول Bossuet أحد منظري العقيدة التيوقراطية « إلا أن يكون ذلك في شكاوى ملؤها الاحترام والتقدير « ومن يمتلك هذه السلطة السياسية؟ يمتلكها الملك، وهذا الحق الذي يمتلكه الملك، له الصفتان، إما أنه يسمى بالحق الإلهي مستمد من الإله، لأن الذي يجلس على العرش، إنما يجلس على العرش الإلهي فهو ينوب عن الله مباشرة، ويمثله. وعندنا في الإسلام أن الرسول خليفة رسول الله، وأن رسول الله عبد الله ورسوله. والملك في تصور العقيدة التيوقراطية لا ينوب عن القديس ولا عن المسيح بصفته البشرية، بل يمثل الله وينوب عنه في الأرض بصفة مباشرة،.لذلك أقول إنها سلطة أبوية مطلقة مقدسة لا يجوز الاحتجاج عليها. ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أن هذه الدولة جوفها وقوامها هو الدين المسيحي، والعقيدة المسيحية في تجلياتها الكاثوليكية أساسا،وهذه هي صفات الدولة الدينية، بمعنى أنها دولة تيوقراطية تقوم على إطلاقية السلطة وقدسيتها. وقد عرف الوجود السياسي والاجتماعي والثقافي الغربي مجموعة من التحولات نشأت بموجبها قوى اجتماعية جديدة وفكر ووعي جديد وتصورات مختلفة في شتى المجالات. ومن بين التصورات التي ظهرت فكرة وجوب الفصل بين ما هو ديني وما هو غير ديني. وأريد أن أفتح قوسا أكاديميا في هذا المنحى. فعندما يكتب فلاسفة العقد الاجتماعي يتحدثون عن المجتمع المدني وأستحضر هنا أكثر هؤلاء الفلاسفة شهرة وتداولا، جون جاك روسو عندما يتحدث عن الوجود المدني وعن الدولة المدنية.وهنا نترجم الكلمة من الفرنسية civil .وهنا نتساءل ما هو نقيض المدني هنا؟ ونجيب أن نقيضه ليس لا العسكري ولا السياسي،الذي هو الأحزاب والنقابات، بل نقيضه هو المجتمع الديني، بمفهوم التنظيم الكنسي الكهنوتي.إذا فهنا نتحدث عن المدني و الديني، وما هو مدنيا ليس دينيا. ويمكن اعتبار ذلك قضية فصل السلط. ولا يعني ذلك أن المجتمع المدني يرفض الديني أو العكس لكن لكل مجاله، ولا ينبغي الخلط بينهما ، فالمجتمع المدني هو المجتمع غير الديني والسلطة المدنية هي سلطة غير دينية، وينتج عن ذلك أن الدولة المدنية هي دولة تقوم أساسا على الفصل بين الدين والدولة والدين والسياسة. لماذا؟ لأنه إذا رجعنا إلى نتائج تطور الفكر والمجتمع الغربي نجد ميلاد مفهوم المواطن الذي هو إنسان راشد عاقل ، حر، فرد، وفرديته متميزة. والعلاقة التي تقوم في وجود نظام سياسيا اجتماعي هي علاقة بين أشخاص تربطهم جملة من المصالح وهم ينتسبون إلى رقعة واحدة التي هي الوطن وكل واحد منهم هو المواطن والجميع تجمعهم هذه الكلمة، والسلطة السياسية، التي خاضت نضالا طويلا ضد الكنيسة ، ليست سلطة مقدسة، وإنما هي سلطة أدمية ولها قدسية واحدة أنها موضع اتفاق وتعاقد فتستمد « قدسيتها « من ما يفرضه وجوب احترام التعاقد الاجتماعي الذي كانت بموجبه هذه الدولة وهذا النظام السياسي الجديد. من هذا المنطلق نتساءل هل في الإسلام دولة دينية؟ هذا السؤال يبدو صادما للكثير من الناس، لكن من اشتغل على الإسلام السياسي يبدو له السؤال سؤالا طبيعيا. ليس في الإسلام دولة دينية على غرار الدولة الدينية التي عرفتها أوروبا وعرفتها الكنيسة. لماذا؟ أولا الدولة الدينية في التصور الذي ظهر في العصر الوسيط في أوروبا يتناقض مع الإسلام جملة وتفصيلا فالبشر هم عبيد الله وليسوا أبناء الله. وهذا كفر بالنسبة للإسلام. ثانيا الحاكم يستمد سلطته من التعاقد الذي يقوم بينه وبين الأشخاص الذين يتعاقد معهم. وقال عمر ابن الخطاب لأبيى بكر الصديق امدد يدك لأبايعك «، حسب الإشكال الذي ظهر بعد موت الرسول، وخاطئ الأمر أم صائب. لا نريد أن ندخل في هذه التفاصيل. فعندما تقول البيعة ففيها طرفان، وفيها تعاقد وجهتان. وعندما كانت وفود القبائل تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعلن إسلامها، فكانوا يقولون له نبايعك على السمع والطاعة..وبالمقابل الإسلام يضمن لهم مجموعة من الحقوق وهناك دائما حقوق وواجبات.والقول « إنما الذين يبايعونك إنما يبايعون الله « بمعنى يطيعون الله من خلال طاعة الرسول و الالتزام بمجموعة من القوانين. وإذا عرجنا إلى فكر المفكرين السياسيين في الإسلام وأخذنا منهم أكثر شهرة وتداولا وهو أبو الحسن الموردي. ماذا نجد؟ عندما يتحدث الماوردي عن الخلافة يقول «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة» أي أن الحاكم يخلف النبي، وعمر ابن الخطاب يقول أنا خليفة خليفة رسول الله وعمر ابن الخطاب يقول انتم المؤمنين وأنا أميركم. والأمير باللغة العربية تعني رئيس.. و» إن كنتم ثلاثة أمروا عليكم أحدا «. وأريد أن أصل إلى نتيجة من خلال هذا السرد أن من الحروف الأولى في القول السياسي في الإسلام هنالك العقد والتعاقد على وزن التفاعل وهذا تحصيل حاصل يقتضي طرفين. وأي عقد يراعي مصلحة الجانبين.و الماوردي يقول في تعريفه للإمامة أن :» الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا « وهذا المبدأ العام، لكن عندما يكون التعاقد ولا يجد مقاسا يقيس عليه، ماذا يفعل؟ يجد أمامه عقد الزواج وما تحقق في التاريخ العيني البشري . وأريد أن أقول أن فعل التعاقد هو فعل بشري. والماوردي وابن خلدون والغزالي وكل مفكري الإسلامي، كلهم تهمهم من العقد شروط الصحة، ومادامت شروط الصحة موجودة، فالعقد صحيح، وإن بطل أحد شروطها بطل العقد، للمرور إلى عقد جديد. والماوردي يقول في المرشحين الكثيرين للخلافة، لمن تعقد الخلافة، يقول في قاعدة فقهية « يراعى حكم الوقت إذا كان الوقت وقت ظهور الكثير من البغاة وقطاع الطرق تعقد لأشجعهم، وإذا ظهر كثيرمن يقولون في الدين عن جهل وكثير من الجهال تعقد لأكثرهم علما»، وتجد دائما أن هناك شروطا ، في مقدمتها الكفاءة و الشجاعة. وسيقول الغزالي بعد ذلك الشوكة، وسيقول ابن خلدون العصبية. وأريد أن أصل إلى نقطة واحدة من كل هذا التفسير التي هي أساس الخلاف، وهو أن التعاقد السياسي في الإسلام، فعل مادي بشري ، ليس فيه لا نفحة قداسة أو تقديس ولا مقدس وهو بعيد كل البعد عن تصور الدولة التيوقراطية، وبشكل مباشر ليس في الإسلام شيء اسمه الدولة الدينية. إن الدولة الوطنية ليست بالضرورة دولة مدنية بالمفهوم الذي طرحه» لوك». فالدولة الوطنية يمكن أن تكون دولة استبدادية، كدولة «هتلر» في ألمانيا. وكثير من التجارب الاستبدادية في أوروبا أقيمت باسم الدفاع عن الدولة الوطنية. بينت تجربة الدولة «الوطنية» في العالم العربي والإسلامي منذ سقوط نظام «الخلافة» سنة 1924 بالملموس أن هذه الدولة كانت حاضنة للاستبداد بحيث إن الأنظمة القهرية هي التي أطرت واقع هاته الدولة الوطنية ، وهي التي أنتجت كرد فعل تيارات إسلامية تدعو إلى الرجوع إلى الإسلام، وإقامة الدولة الإسلامية.