انتقد أحد الأصدقاء مقالا لي حول سورية نشرته صحيفة "»الاتحاد الاشتراكي المغربية«" ورأى أنه مقال شخصي وذاتي، ولكي أشرح له علاقتي بسوريا، تذكرت ما قاله الجنرال ديغول عن علاقته بفرنسا في مذكراته الجزء الثاني. وهنا أقول، كما قال الزعيم في تصوره لعلاقته ببلده الأم (لقد كونت على مدى حياتي فكرة عن بلادي أوحى بها إلي الشعور، كما كانت من وحي العقل أيضاً) وأنا أزيد هنا أن الجانب العاطفي الذاتي هو تخيلي سورية دائما كما لو كانت أميرة من أميرات حكايا ألف ليلة وليلة أو صورة من صور العذراء المزركشة علقت على جدران المنازل. إنها في تصوري على قدر جليل غير عادٍ، وكانت لدي بالفطرة هذه الانطباعات وأكثر من ذلك، فأنا أعتقد أن الله أوجد سورية لإحراز انتصارات مكتملة أو المرور بويلات يضرب بها المثل. وإذا حدث مع ذلك، موقف غير مقبول، وإذا حدث أن اتسمت أفعالها بشذوذ ينبغي أن يعزى إلى أخطاء السوريين لا إلى عبقرية الوطن. غير أن الجانب الإيجابي في تفكيري يقنعني دائماً: ان سورية لن تكون إياها على حقيقتها إلا حين تكون في الصف الأول، وأن تحمل دائماً مشاريع كبرى شاملة، وهي وحدها يحق لها أن تحمل نتائج الخطأ الذي يطلقه شعبها في قراراته. وان على سورية التي حملت الفكرة القومية منذ التحرر من تركيا ودخول فيصل ابن الحسين دمشق على فرسه، ثم يعقد المؤتمر الوطني الأول يضم أفراداً من كل الدول العربية المشرقية (الأردن، فلسطين، لبنان) وعلى رأسهم سورية التي كانت وطنهم جميعاً. سوف تستمر في حملها هذا المشروع بطريقة أو بأخرى. وان على سوريا، كما هي اليوم، وسط البلدان العربية يجب أن تصوب نظرها على الدول وتنتصب شامخة. إن سورية لا تستطيع أن تبقى سورية دون عظمة وعظمتها تتمثل في موقفها القومي الذي عطل خلال أربعين عاما بغير إرادتها. لقد نما هذا الإيمان وكبر عندي مع تنامي البيئة التي ولدت فيها وكبرت, فقد كان عمي من رجال الفكر، والسياسة والثقافة والتقاليد العربية متسماً بشعور الكرامة العربية، وكانت والدتي ملهمة بحب الوطن, أمر لا يوازيه في قوته سوى ورعها الديني، وكنت وجميع إخوتي وأخواتي نحمل ضرباً من الاعتزاز ببلادنا، كنت أتماهى مع الأحداث الكبرى وأرى عظمة الليل أمام تمثال يوسف ...، وأقف مجللة بالتاريخ أمام قبر صلاح الدين الأيوبي، وأحس بفخر في داخلي وأنا أعبر باب شرقي، أو باب ترما، أو باب الجابية لأن الحضارة العربية دخلت سورية من هذه الأبواب. ما من شيء كان يودع الأثر والتأثير في أعماقي من زيارة عابرة لمتحف دمشق، وأمام أسوار الجامعة تهاجمني ذكرى فيصل بن الحسين الذي بنى أول دولة عربية مستقلة قبل إنذار غورو المشؤوم، هنا تجمع كل الأحرار العرب الهاربين من ظلم الأتراك... هنا كان ساطع الحصري الذي عرب الادارة السورية في عام واحد، وهنا كان ياسين الهاشمي ونوري السعيد وكل الأحرار الذين التحقوا بالشريف حسين. كيف كان حماس الناس ياترى في دمشق، أما مروري أمام مبنى البرلمان, فيردني الى الجلسة الأولى في سنة 1960، حيث تصارعت الأحقاد يمنا ويسارياً وتيارات دينية, ومن المشرف الآن في ذكر ذلك، أن أول من طلب للمرأة حق التصويت كان من التيار الاسلامي، وكان يحزنني عميق الحزن نقاط ضعفنا وأخطائنا، التي كنت أراها على قسمات وجوه بعض الناس: النزاعات الاجتماعية والطائفية والخلافات الدينية والمذهبية، وكما كان الحزن يثيرني لدى ذكر سايكس بيكو فقد كان فقد فلسطين قلب سورية من أكثر مصائب القرن العشرين. شوارع دمشق واليرموك توحي لي بها وكأنني أعيشها اليوم. عندما كنت يافعة, كنت أهتم بكل شيء جرى ويجري لسوريا، ولكن لفلسطين أيضاً، أو ما يتعلق بالتاريخ والحياة العامة. انجذبت بصراحة تجاه الرواية التي تمثل دون انقطاع في ميدان حياتنا كل يوم، منقادة إلى تلك القصة التي بذل فيها عديد من الممثلين دون حساب من ذكاء وبلاغة واتقاد، كما كنت أشعر بضيق لما أشهد من مواهب وافرة تهدد في خضم البلبلة السياسية والانشقاقات الوطنية التي كانت تزداد منذ أواسط الخمسينيات وتحديداً مع نذر حرب 1967. جملة القول أيها الصديق العزيز أنني لم أشك يوماً أن على سورية أن تجتاز محناً ضخمة. وجدوى حياتي هو أن أعرف كيف من تلك المحن وفي أي جبهة اصطف.