إن ظهور الدولة الوطنية في منطقة المغرب العربي بعد استقلالها من الاستعمار، واستغراقها في همومها الوطنية، وسيطرة النزعة القطرية على توجهاتها، سيجعل السلطة الحاكمة تقوم بالتضييق على نشاط نخبها الساعية إلى تحقيق الوحدة المغاربية، وهو ما أدى إلى انحصار دور النخب المثقفة في العمل من أجل وحدة المغرب العربي (15). فاللجنة الاستشارية الدائمة المغاربية التي تأسست عام 1964، كانت مؤسسة رسمية بين حكومات، ومع ظهورها تحول مشروع الوحدة المغاربية من مشروع تسعى إليه شعوب المغرب العربي، ونخبه المثقفة إلى مشروع رسمي حكومي تتحكم فيه حكومات أقطار المغرب العربي، وهو ما تجلى في تجربة هذه اللجنة، التي امتدت ما بين 1964 - 1975. ولم تكن تجربة اتحاد المغرب العربي، الذي انطلق بمراكش سنة 1989، أحسن حالا منها، حيث عرفت مسيرة هذا الاتحاد تعثرا منذ عام 1994، وأبرز ما ميز كلا التجربتين (16)، أنهما غلبت عليهما الصفة الرسمية، ولم تشرك فيهما الشعوب المغاربية أو نخبها، وهو ما تجلى أكثر في تجربة اتحاد المغرب العربي، مما أفقده السند الشرعي الأساسي، المتمثل في دور النخبة، التي هي صاحبة الفكرة تاريخيا (17). لقد كان من المفروض أن تباشر الأقطار المغاربية، عند حصولها على الاستقلال بناء المغرب العربي، إلا أن انطواء كل قطر على ذاته، وسعيه لتكريس سيادته على حدوده الإقليمية، وتبني سياسات اقتصادية واجتماعية مختلفة أدى إلى الكثير من الصراعات وعمق من تناقضات الواقع المغاربي، في ظل مناخ تغيب فيه الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية... إن آليات اشتغال الأنظمة السياسية المغاربية الحديثة لا يمكن فصله عن تلك اللحظات الحاسمة من تاريخها السياسي المعاصر، خاصة تلك المتعلقة بحدث الاستقلال وطبيعة الاستراتيجيات التي ارتبطت بها، ثم مشاريع بناء الدولة الحديثة، وطبيعة الرهانات التي حكمتها وحددت معالمها، وهو ما يسمح لنا بمعرفة، كيف سمحت شرعية القادة السياسيين ، دون غيرهم بلعب أدوار سياسية مصيرية، خلال تلك الظروف الخاصة من التاريخ السياسي للدول المغاربية (18) خاصة قدرة هؤلاء القادة على تعبئة نمط محدد من الخطاب والسلوك السياسيين. إنه ومهما كانت العوامل أو الذرائع التي بررت النزوع نحو الإطلاقية السياسية» l?absolutisme politique« وشخصانية الأنظمة السياسية الذي ارتبط بإكراهات استكمال الوحدة الوطنية، وبناء أسس الدولة الحديثة وضرورات خلق الاندماج الاجتماعي، فإن ذلك لا يحجب عنا مساوئ هذا الشكل من علاقة السلطة، زيادة على ذلك فالبنيات الحكومية التي عرفتها الدول المغاربية بعد الاستقلال، لم تكن لتلعب دورها كسلطة تقريرية على مستوى تحديد وتدبير السياسيات العامة إلى جانب رئيس الدولة، بقدر ما شكلت واجهة مؤسساتية لشرعنة وتدبير العلاقات الشخصانية التي ميزت علاقة السلطة السياسية والقرار العام داخل هذه الأنظمة، لتبقى السياسة العامة كمجال محفوظ للرئيس بالدول المغاربية. ونجد أن النخب المغاربية، ونخص بالذكر النخب الحزبية على سبيل المثال، وجدت نفسها غير قادرة على بلورة أجندات سياسية وتحويلها إلى أجندات حكومية أو قرارات عامة، أو التأثير فيها، مع العلم أن الأحزاب السياسية من الناحية المبدئية، تبقى هي المكلفة بإفراز نخب قادرة على الدفاع عن المطالب المجتمعية، وبالتالي تترجم برامجها ومطالبها إلى سياسيات أو قرارات عامة. إن الفلسفة السياسية الليبرالية الكلاسيكية، تقدم لنا المؤسسة البرلمانية على أنها الوسط القراري المركزي بامتياز، بفعل شرعية الانتخابات، إلا أن ظاهرة شخصانية السلطة التي ميزت الأنظمة السياسية المغاربية، وسيطرة الجهاز التنفيذي، جعل البرلمان مقيدا في ممارسة مجموعة من الصلاحيات في المجال التشريعي، يضاف إلى هذا الأمر ، ارتكاز العمل البرلماني المغاربي، على مجموعة من المفاهيم، الهدف منها هو ضمان وحدة القرار. وإذا كان الاتجاه الساند اليوم في الديمقراطيات الغربية أن النخبة الحزبية تقوم بمراقبة حقيقية للسلطة التنفيذية، وتقوم بدور كبير وفعال في صنع القرار والتأثير فيه، بل وهناك من يذهب إلى أن المسؤولية السياسية قد تحولت إلى مسؤولية حزبية، فإن الوضع في دول المغرب العربي، لم يصل إلى هذه الدرجة من التطور والمسايرة، حيث الحزب لا يزال يتخبط في مشاكله الذاتية المتعلقة بالديمقراطية الداخلية، وبنيته النخبوية، ومتاهات الانشقاقات والتحالفات، وبالتالي لازال يبحث عن إبراز أدواره بقوة أكثر داخل المنتظمات السياسية لهذه الدول، حتى يتمكن بعد ذلك من الارتقاء بأدواره السياسية وتطويرها. لكن هذا لا يمنع من أن الحركة الحزبية في هذه الدول قد تخطت عقبات كثيرة، كما أن أدوارها تجلت في مكامن عدة، وعلى واجهات مختلفة تزيد من أهميتها.