حيفا مدينة يشهد كل من زارها بأنها من أجمل مدن الدنيا ، كونها تقوم على سفح جبل يطلّ مباشرة على البحر الأبيض المتوسط دون أن يفصلهما سهل ساحلي ، بحيث تطلّ على البحر أينما كنت . في هذه المدينة ولد الدبلوماسي الإعلامي الكاتب واصف منصور ، وبعد أقلّ من ثلاث سنوات طرده الصهاينة رفقة أسرته وأكثر من نصف شعبه الفلسطيني ليصبحوا لاجئين . . أي مجموعة من البشر لا تملك مأكلا ولا ملبسا ولا مأوى . ويصمدوا لكل ذلك ويفجّروا أطول ثورة عرفها التاريخ . عاش واصف منصورحقبة اللجوء كاملة ، العيش في العراء ثم في الخيام ثم في بيوت أشبه بالقبور ، ويحدّثنا عنها بأدق التفاصيل . وعاش حقبة الثورة كمناضل سياسي وإعلامي وعسكري على مختلف الساحات ، ويحدّثنا عن دروبها ودهاليزها . وبما أن القدر ساقه إلى المغرب حيث قضى فيه ضعف ما قضى في فلسطين ، طالبا جامعيا ومدرّسا ومناضلا طاف كل نواحي المغرب مبشّرا بقضيته ، والتقى ورافق غالبية رجال ونساء السياسة والفكر والأدب والفن والإعلام المغاربة . في هذه الحلقات يحدّثنا فيما يشبه التقارير المفصلة عن حياة المغرب السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية على مدار سبع وأربعين سنة .. هذه الحلقات التي ستتحوّل لاحقا مع إضافات وتنقيحات إلى كتاب سيصدر قبل نهاية هذه السنة إن شاء الله . كانت الذكرى الرابعة لإنطلاقة حركة فتح 1/1/1969 تقترب ، وبدأت مجموعتنا في المغرب تحضّر لإصدار نشرة تتضمن أفكار ومبادئ وأهداف حركة فتح ونشاطاتها السياسية والعسكرية خلال عام 1968 . وبعد أن أعددنا كل الدراسات والتقارير والمقالات ، كانت أمامنا معضلة تتمثل في طباعة هذه المواد على ستا نسيل . ولما كان أحد أفراد جماعتنا وهو الأخ نبيل الرملاوي يعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يمثل المرحوم أحمد الشقيري ، وكان معه مفتاح المكتب . صرت وإياه نذهب بعد منتصف الليل إلى المكتب ، ونتناوب على الطباعة حتى أكملنا كل المواد . ثم واجهتنا مشكلة سحب أوراق الستا نسيل ، وحللنا المشكلة بأن سحبنا بعضها في مقر حزب الإستقلال والبعض الآخر في مقر حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية . أخذنا الأوراق وانتقلنا إلى البيت / المكتب السالف الذكرالذي سبق وان استقبلت فيه مرة أحد الإخوة المسؤولين الفتحاويين أثناء عودته من جولة على الجاليات الفلسطينية في دول أمريكا اللاتينية ويحمل جواز سفر دبلوماسي من إحدى الدول العربية ، كانت معه حقيبة فيها ربع مليون دولار . ورغم كل ذلك وبسبب ذلك أيضا لم أنزله في فندق ولم أعشّيه في مطعم ، بل بتّ وإيّاه وأخ آخرإسمه مصطفى طومان على سرير واحد ، وتعشّينا مقلى من الطماطم والبيض ، وفي الصباح أوصلته للمطار وسافر إلى وجهته ، ولم نلمس ما في الحقيبة لأن ما فيها أموال للمجاهدين وأسر الشهداء. نعود إلى موضوع النشرة ، حيث اجتمع عدد من الطلبة الفلسطينيين المنتمين لحركة فتح وجمعناها ووضعناها في أغلفة كتبنا عليها عناوين معظم الشخصيات المهمة في المغرب ، ووضعنا عليها طوابع البريد . إنتهى عملنا حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا ، فحملنا الرسائل في أكياس كبيرة ، ونزلنا سيرا على الأقدام حتى وصلنا مقرالبريد المركزي ووضعنا الرسائل في الصندوق الكبير وعدنا سيرا على الأقدام إلى أكدال . في ذلك الوقت دقّت الساعة إثنتي عشرة دقة معلنة بدء العام الجديد 1969 ، ورأينا كثيرا من الشباب المنتشين بالفرحة والخمرة يغنّون ويرقصون في الشوارع وفي الشقق التي تطل على الشارع وأضواؤها الملونة تشتعل وتنطفيء . وهنا قال أحد الإخوة واسمه رجائي الداودي بشيء من الحزن والغضب : هذا والله حرام ، نحن منذ أيام لم ننم لإعداد النشرة التي نقصد منها المساهمة في توعية الناس ، وهؤلاء لاهون يرقصون ويغنّون ويترنّحون . قال له الأخ أبو درويش أول معتمد لحركة فتح في المغرب ، والذي كان معنا طيلة العملية : يا عزيزي رجائي يجب أن تعلم بأننا مطالبون بالعمل أكثرلأنهم هكذا ، حتى يأتي يوم تراهم فيه منشغلين مثلك أو شهداء قبلك . كان لهزيمة حزيران / يونيه 1967 أثر بالغ على نفسية المواطنين العرب داخل بلدانهم وحتى في الخارج . ففي داخل بلدانهم ثارت لديهم عشرات الأسئلة عن أسباب ومسبّبات الهزيمة التي سمّوها (نكسة) في محاولة للتخفيف من وقعها ، وتكوّن في النفوس ألم وحقد على من اعتبروهم مسؤولين عن الهزيمة ، ورغبة في مسح آثار العدوان والثأر للهزيمة . وفي الخارج عانى الطلاب الدارسون في الخارج وكذا المهاجرون من عمال وتجار من نظرات الشماتة والسخرية التي تعرضوا لها لا فرق بين مشرقي ومغربي ، ولم يسلم منها أحد حتى الذين كانوا يحاولون إخفاء هويتهم العربية أو يعيشون حياتهم بعيدا عن النضال أو السياسة . فوجدوا أنفسهم ورغم أنفهم عربا مهزومين ، ومضطرين لمواجهة أعدائهم ومحتقريهم بالمشاركة في أي عمل نضالي يكسبهم الإحترام ، بحيث وجدنا بعضهم ممن لم يكونوا يحسنون حتى الحديث بالعربية العامية أصبحوا عربا فكرا وممارسة ، والتحق بعضهم بصفوف الثورة الفلسطينية أو أصبحوا من حاملي لواء العمل الفلسطيني في بلدانهم بعد عودتهم إليها. وفي المغرب تنادى رجا لات الحركة الوطنية المغربية لضرورة فعل ما يمكن فعله للمساهمة في الإنتصارعلى الهزيمة وتحرير ما تم إحتلاله من أراض عربية . وكان دافعهم الأول لذلك الحديث النبوي الشريف الذي يقول (( إذا احتلت بعض أراضي الإسلام وعجز أهلها عن رد المعتدين ، يصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة )) فكيف إذا كانت هذه الأرض هي أرض الإسراء والمعراج والمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين . وكان في طليعة هؤلاء الرجال الأساتذة علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وأبو بكر القادري وعبد الكريم بن جلون ومحمد الطاهري والفقيه محمد بن عبد الله ومحمد بوستة ، والدكاترة عبد الكريم الخطيب والمهدي بن عبود وعمر الخطابي وعبد اللطيف بنجلون والهادي مسواك وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم جميعا. عقدوا لقاءات عديدة واتفقوا في النهاية على تأسيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني ، ووضعوا لها نظاما أساسيا تضمّن الأهداف والوسائل . وفي أواخر شهر أغسطس/ آب من عام 1968 اجتمع خمس وأربعون شخصية من مدن الرباطوسلا والدار البيضاء وفا س ومراكش والقنيطرة وطنجة وتارودانت والخميسات وبركان ، يمثّلون حزب الإستقلال وحزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والإشتراكية والمجلس الوطني لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير ورابطة علماء المغرب وممثلون عن النقابات العمالية والطلابية وشخصيات مستقلة ممن عرفوا بالوطنية والنزاهة . اجتمعوا في منزل الدكتور عبد الكريم الخطيب بالرباط ، ووقّعوا ميثاق الجمعية واتفقوا على تشكيل مكتب مركزي للجمعية يضم ممثلين عن الهيئات السالفة الذكر ، وأوكلوا مسؤولياته الرئيسية لشخصيات مستقلة . فكان الرئيس عبد الكريم بنجلون والكاتب العام محمد الطاهري وأمين المال الفقيه محمد بن عبد الله . ولا بد من التوقف هنا عند الوضعية السياسية الداخلية المغربية، حيث لم تكن العلاقات بين الأحزاب المغربية على ما يرام إن لم نقل بأنها سيئة . ولم يمنع ذلك من التقائهم جميعا وتناسي خلافاتهم من أجل فلسطين ، واستمرت المكاتب المركزية المتتالية للجمعية على هذا النهج ، كما استمروا يقولون بأننا مع ما تريده قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ندعمهم دون أن نفرض عليهم توجها أو قرارا لا يريدونه . حضرت إلى جانب الأخ أبو درويش/ خالد الشريف معتمد حركة فتح بالمغرب جانبا كبيرا من هذه الإجتماعات ، كمستمعين وأحيانا لنجيب عن اسئلة محددة . ولما تم الإعلان عن تكوين الجمعية وتقرّر إكتراء مقر لها في حي مرسة بالرباط ، اتفق المكتب المركزي للجمعية مع الأخ أبو درويش على أن أتولى السكرتارية الإدارية والتنفيذية للجمعية والمداومة في مقرها ، وكان راتبي في ذلك الوقت أربعمئة درهم فقط . هكذا أصبحت ملزما بالحضوريوميا كل صباح ومساء للقيام بتلقي ما يرد على الجمعية من رسائل والرد عليها بعد التشاور مع الكاتب العام للجمعية ، وتلقي التبرعات العينية وتخزينها في المقر والتبرعات المالية وإيداعها في حساب الجمعية ، وصياغة البيانات التي تر يد الجمعية إصدارها في المناسبات الفلسطينية . ومراسلة والإتصال بفروع الجمعية التي انشئت في إحدى وعشرين مدينة مغربية . ورغم تعييني في عام 1972 في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية ، فقد استمر عملي في الجمعية لغاية 1977 ، حيث تسلم هذه المسؤولية الأخ عايش عيسى أبو طارق . كانت المناسبة الأولى والأهم للإعلان عن قيام الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني مجيء فرقة المسرح الوطني الفلسطيني التابعة لحركة فتح إلى المغرب في شهرشباط فبراير من عام 1969 ، لتقدم عروضا مسرحية في غالبية المدن المغربية تقدم خلالها مسرحيتين ( شعب لن يموت ) و ( الطريق ) . وكلّفت من قبل معتمد حركة فتح ومن قبل الجمعية بالتحضير اللوجستي للجولة ، والإشراف المادي ومرافقة الفرقة طيلة جولتها . مع العلم أن الدولة المغربية إستضافت الفرقة إستضافة كاملة ، ووضعت تحت تصرفها حافلة كبيرة للتنقل ، وأوصت أصحاب قاعات السينما بمختلف المدن بوضعها تحت تصرف الفرقة ، إضافة إلى المسارح الموجودة في بعض المدن . بدون استشارة مع السلطات المغربية قررت الجمعية عدم الإكتفاء بمداخيل التذاكر ، بل قررت إقامة مزادات علنية على درع الثورة الفلسطينية أو كوفية مقاتل ، وحددت بعض المدن كالرباط والدار البيضاءوسلا وفا س ومراكش ومكناس ، ارتأت أن حالة أهلها المادية تسمح لهم بالتبرع ، حيث كان المزاد يتم على الطريقة الأمريكية ، أي أن المتبرع يدفع مباشرة للمشرفين على المزاد قيمة المبلغ الذي يتبرع به . ابتدأت الحفلة الأولى في مسرح محمد الخامس بالرباط والذي يتسع لأكثر من ألفي متفرج ، والذي نادرا ما يمتليء عن آخره ، ولا أذكر أنه امتلأ من قبل سوى في حفلات السيدة أم كلثوم الثلاث التي كان ريعها مخصصا للمساهمة في المجهود الحربي لإزالة آثار العدوان بعد هزيمة 1967 ولاحقا حفلات السيدة فيروز والأمسيات الشعرية للشاعر العظيم محمود درويش . امتلأ المسرح في هذه الحفلة عن آخره ، بل وشهد مدخل المسرح شبه مظاهرة من الناس الذين لم يجدوا تذاكر . في فترة الإستراحة بين فصلي مسرحية « شعب لن يموت «، صعدت خشبة المسرح مع الأستاذ الهاشمي بناني رئيس فرع الجمعية بمدينة الرباط ، وأعلنّا عن بدء مزاد علني على درع الثورة الفلسطينية . وهنا اختلطت الدموع بالدموع .. فأعضاء الفرقة المسرحية انهالت دموعهم من فرط التأثر على ما يرونه من سخاء ، حيث نزعت النساء قلائدهن وأساورهن وخواتمهن الذهبية ، وأفرغ الرجال كل ما في جيوبهم من النقود ، واختلطت دموعهم بدموع الرجال والنساء الحاضرين الذين لم يكونوا في حينها يحملون سوى مبالغ زهيدة لأنهم لم يكونوا يتوقعون إجراء المزاد . في خضمّ هذا المشهد المؤثر ، لا يمكن نسيان ما فعله السيد أبراهام السرفاتي ، المواطن المغربي اليهودي التقدمي المناضل ضد الصهيونية وإسرائيل ، حيث انتزع خاتم زواجه وقدّمه لنا معتذرا لكونه لم يكن حينها يملك غيره ، ولازلنا نحتفظ به تذكارا . وهنا لا بد من التذكير بما قام ويقوم به المناضل المغربي اليهودي الديانة الأخ سيون أسيدون الذي يسميه أصدقاؤه ومعارفه القدامى ( المعطي ) ، الذي يقود حملة شرسة ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني سياسيا أو ثقافيا أو إقتصاديا ، ونجده دائما في قلب الوقفات التضامنية مع الشعب الفلسطيني وفي الغد كانت الفرقة تقدم مسرحيتها في مدينة سلا ، حيث قدمت عرضها على مسرح سينما الملكي . وقد شجّع الجمعية ما حدث بالأمس بالرباط على أن تقيم مزادا مشابها في سلا. وصعدت مع الأستاذ الهاشمي بناني الخشبة وبدأنا المزاد على كوفية فلسطينية ، وتكررت نفس المشاهد من العطاء السخي . ولكن حادثة وقعت ميّزت حفل سلا عن حفل الرباط . كنت واقفا على الخشبة أتسلّم التبرعات وأضعها فوق منديل قدّمته لنا إحدى السيدات ، وفجأة لمحت باب القاعة ينشقّ عن شخص مقعد يقتعد قفّة جلدية ويضع في يديه فردتي قبقاب خشبي يستعين بهما على الزحف . كان الناس يقفون تحت الخشبة ويرفعون بأيديهم ما يريدون التبرع به ، ولكنني توقفت عن أخذ التبرعات ، وأشرت للجمهور ناحية الممر الرئيسي للقاعة حيث يزحف ذلك المقعد . دخل المقعد والصمت يخيم على القاعة في لحظة إثارة عجيبة ، وظل يزحف حتى وصل إلى آخر القاعة ، فأشرت إلى بعض الحضور أن يحملوه ويضعوه فوق الخشبة . أخرج من القفّة صرّة وأخذ يحل رباطها بهدوء ، ثم نادى عليّ ولما اقتربت منه أفرغ ما في الصرّة في كفي . طلبت من إثنين من الحضورصعود الخشبة ليحصيا ما قدمه ذلك المقعد . لم يزد المبلغ عن عشرين درهما ، ولكنها كلها قطع نقدية معدنية من فئة عشرة وعشر ين وخمسين فرنكا . أعلنا بالميكروفون عن عدد القطع النقدية من كل فئة .. فسيطرت حالة من الذهول على الحضور .. فهذا الشخص المقعد يعرفه الكثير من الحضور كمتسوّل يستعين بصدقات الناس على إعالة أسرته . جاء بحصيلة يومه كاملة ليتبرع بها للمجاهدين الفلسطينيين . وكم كانت ردة فعل الجمهور عظيمة ، بحيث أنني لا أظن أن رجلا أو إمرأة خرج من القاعة وفي جيبه درهم واحد أو شيء ذو قيمة من مصاغات وساعات يدوية وخلافه .