كان المشهد رائعا وطريفا: في القاعة الواسعة اصطفت جموع من رجال ونساء المقاومة الفلسطينية، على اختلاف رتبهم ودرجاتهم العسكرية والمدنية، بدءا من أبي عمار، مرورا بأبي جهاد وأبي أياد، وانتهاء بجنود يحملون ألقابهم على أكتافهم، ويشتركون في كنية واحدة: أبو فلسطين. وفي الطرف الآخر من القاعة منصة للخطابة اعتلاها شاعر نحيف، بصوت جهوري اسمه محمود درويش. ما أن بدأ الشاعر بإلقاء قصيدته عن ملحمة الخروج من بيروت، حتى علت التصفيقات وتغلغلت العيون بالدموع. وطوال مدة إلقاء القصيدة/الملحمة التي استغرقت أكثر من ساعة (45 صفحة من الحجم الكبير) ظل رجال السياسة الفلسطينيون مشدودين بأعينهم وأسماعهم وجوارحهم إلى الشاعر. وكلما وصلت القصيدة إلى منعطف ازدادت التصفيقات صخبا. لم يغادر أحد مكانه وبقي رجل السياسة والمقاوم الفلسطيني متسمرا في مكانه من «بحر لأيلول الجديد. خريفنا يدنو من الأبواب..» إلى «ما أوسع الثورة/ ما أضيق الرحلة/ ما أكبر الفكرة/ ما أصغر الدولة». هذا المشهد الذي يرجع إلى بداية الثمانينيات، يثير في النفس شجونا كثيرة. ففضلا عن أنه يؤرخ لواحدة من أكثر قصائد محمود درويش شهرة، «مديح الظل العالي»، فهو يعيد إلى الذاكرة قضايا كاد النسيان يطويها، يمكن أن نبرز منها اثنتين، على سبيل الاختصار: الأولى تتمثل في الانقلاب الذي أحدثته السنون في موقف الساسة العرب والفلسطينيين خاصة من أمريكا. فقد كانت ملامح قائد الثورة الفلسطينية آنذاك، الرئيس ياسر عرفات اليوم، طافحة بالتعبير عن السخط والغضب على الدور الحاسم للولايات المتحدةالأمريكية في تشريد الشعب الفلسطيني، والظلم التاريخي الذي لحق به. وكان أبو عمار يهتز حماسا كلما وصل الشاعر إلى جملة تتضمن سخرية مرة من أمريكا ومن السياسة العربية تجاه القضية الفلسطينية. والآن بعد انصرام السنين، وبعد قافلة من الشهداء الذين ما زالوا يسقطون استجابة لنداء الوطن، لم يعد الزمن هو الزمن. فهاهي الأحوال قد تغيرت، ولم تعد المراهنة على أمريكا التي تلعب دور الخصم والحكم في نفس الآن من الخطوط الحمراء. بل أصبحت حاجة ملحة من أجل أن تفرج إسرائيل عن مياه الشرب. بتعبير درويش، وأن تسمح بمرور ما يسد رمق أهل غزة من طعام. فكيف وصل الساسة العرب إلى هذه الدرجة من النخوة حتى يسلموا مفاتيح غرف نومهم لأمريكا وظلها؟ ومن المسؤول عن هذه الحالة التي تسوي بين الجلاد والقاضي؟ أما الثانية فليس لها بعد سياسي بالمعنى الحصري للكلمة، بقدر ما لها معنى أدبي خاص. فالمشهد برهن على أن الشعر تحديدا قد لعب دورا بارزا في إذكاء نار المقاومة. والمقاتلون الفلسطينيون الذين كانوا قد خرجوا لتوهم من بيروت بعد حصار طويل، يحملون وطنهم في حقائبهم، وهم منهكون من ظلم الأخوة والأعداء، لم يكونوا بحاجة إلى بنادق وقنابل وما إلى ذلك من العتاد، بقدر ما كانت حاجتهم ماسة إلى من يمدهم بشحنة معنوية تعيد إليهم الإيمان بالمستقبل، بعد أن خذلهم الماضي العربي. ولقد كانت قصيدة محمود درويش «مديح الظل العالي» معينا لا ينضب في معاني التضحية والوطنية. وهذا يحيلنا على قضية كادت الدراسات الأدبية أن تنسينا إياها بفضل الفتوحات الشكلانية التي لم تبق ولم تذر، ألا وهي علاقة الشعر، والأدب عامة، بالمقاومة. فلقد كانت فترة الستينيات والسبعينيات في الشعر العربي، فترة ذهبية لخلق تلاحم بين الشعر والمقاومة. ومن المفيد أن نسجل أن عددا قليلا من الشعراء فقط استطاعوا أن يقفوا في وضع التوازن بين الشعر والحدث، كما تحقق لمحمود درويش في «مديح الظل العالي»، ومع ذلك فإن ما كان يعرف بشعر المقاومة، أو قصيدة الالتزام قد أضفى على القول الشعري العربي نفسا ملحميا لم يكن ليتحقق له لولا هذا الربط الجدلي بين الكلمة والفعل الذي أسس له شعر المقاومة. فما أحوج العرب اليوم إلى «قصيدة بيروت» و «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» و«مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف» وغيرها، من القصائد التي تذكر العربي بعروبته في زحمة الأحداث. سفارة فلسطين بالرباط : الشاعر الكبير محمود درويش علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي أكدت سفارة دولة فلسطين بالرباط، أن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش, « علامة فارقة في تاريخ الشعر العربي، حيث يعتبر أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن» . وأوضحت السفارة، في بلاغ توصلت وكالة المغرب العربي للأنباء بنسخة منه، اول امس الثلاثاء، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيل هذا الشاعر الكبير، بعد رحلة حافلة بالاسهامات الابداعية والوطنية امتدت ل67 عاما أن الشعب الفلسطيني، ومعه الأمة العربية فقدا ، برحيل درويش « قامة شعرية وأدبية كبيرة» . وأضافت أن مكانة هذا الشاعر كبيرة في قلوب الفلسطينيين والعرب, و «بخاصة الشعب المغربي الشقيق، فقد كان درويش ضيفهم الدائم والمحب للمغرب» . وسجل البلاغ, أن « درويش ترك تراثا شعريا ونثريا ونضاليا هاما، وأخرج القضية الفلسطينية من حيزها الجغرافي الفلسطيني إلى آفاق عربية وعالمية معبرا عن معاناة الشعب الفلسطيني وتطلعاته بالحرية والاستقلال» . وأشار إلى أن « شاعر فلسطين وكاتب إعلان الاستقلال الفلسطيني، الذي علمنا حب الوطن والحياة، رحل, وعزاؤنا أنه سيبقى حاضرا دوما بشعره وكلماته التي ساهمت في صقل الوجدان الوطني للفلسطينيين» . وأكدت السفارة إصرار الفلسطينيين « على مواصلة درب النضال حتى تحقيق الاستقلال وإقامةالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس» .