انطلقنا من دائرة الأمن باتجاه سوق السليمانية. نزلنا في مكان مليء بالمقاهي والمطاعم الشعبية والدكاكين. كل شيء يباع هنا. من المواد الإلكترونية إلى وسائل الطبخ وأثاث البيت ووسائل التنظيف وملابس النساء والرجال والأطفال والمواد الغذائية والغناء الكردي داخل الأقراص المدمجة ونوع من النباتات والتوابل غير المعروفة لدينا في المغرب، فضلا عن طرق عصر الفواكه والمزج بينها بحيث تعطي مذاقا متميزا. كنا خمسة نساء ورجل واحد. ولم تكن مجموعتنا منسجمة بالنظر إلى بعض الاعتبارات التي لا مجال لذكرها. لذا كانت إحدانا تلج دكانا دون أن تخبر الأخريات، فنظل نبحث عنها، فإذا ظهرت تختفي أخرى. وهكذا دواليك، إلى أن استبد الضيق بمرافقنا الذي لم يكن سوى الرائع دانا جلال، والذي أخبرنا بنفاذ صبره وبضرورة عودتنا إلى الفندق. بعد موجة من الاحتجاج، اتفقنا على أن نبقى في السوق بعض الوقت، لكن شرط أن تخبر كل من أرادت دخول دكان الآخرين بذلك. تجولنا مدة غير يسيرة، جعلتني أقارن الأسعار بين المغرب والسليمانية، فوجدت أن كردستان غالية جدا. زيارة شهيدة المدن حلبجة: الساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد الزوال، عندما انطلقت بنا السيارة من السليمانية باتجاه حلبجة. كانت شمس الظهيرة تدفع ظهورنا برفق، وكأنها تعتذر عن ما زال ينتظرنا. كنا في السيارة أربع نساء وسائق. وكانت معنا امرأة عراقية تدعى راهبة تقيم في السويد، تكره صدام كراهية شديدة لدرجة يبدو لمن عاشرها، وكأن لديها ثأر خاص معه. كانت مناضلة نسائية شرسة، بحثت في تاريخ النساء الكرديات، وحكت لنا الكثير عنهن. أما السائق، الذي كان كرديا لا يتقن العربية، فقد كان شابا فاتن الوسامة والجمال. عيناه خضراوان وفم ممتلئ وصغير وشعر حريري. كنت شاردة أتأمل الطبيعة خلف زجاج السيارة عندما سمعت ضحك الفتيات، وتعليق شامة «هاذي فهمتيها ياك؟». التفت فوجدت الشاب يضحك أيضا. وعندما استفسرت، قالت لي شامة «كنا نعلق على جماله، وكان ينظر إلينا من الزجاج المقابل له، فجأة ابتسم ابتسامة عريضة، وقام بحركة من رأسه تشي بأنه فهم ما نقول»، ضحكت أيضا، أعدت النظر إليه فهالتني وسامته وجماله. لكنني كنت أفكر في ما سنلاقيه في متحف حلبجة من آثار ذاكرة مفجوعة. توقفت السيارة في فضاء واسع قرب هرم مرتفع إلى عنان السماء، يوجد على رأسه ما يشبه الأصابع التي تنكمش على السلام. في إشارة إلى الرغبة في عدم تكرار ما جرى. إنه متحف حلبجة، الذي كتب عليه «نصب تذكاري ومتحف السلام لحلبجة». ولجنا المتحف، عرجنا على فضاء صغير معلقة عليه صور كردستان الحديث، كان معنا دليل يشرح بالكردية، وكان الجندي المجهول نهاد القاضي يترجم إلى العربية. كانت الصور تعكس تاريخ كردستان، منذ القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين فالواحد والعشرين. مع المرور على بعض الشخصيات البارزة في تاريخ هذا الإقليم، من بينها المقاتلان مصطفى البارزاني وابنه مسعود رئيس الإقليم حاليا منذ انتخابات 25 يوليو 2009. بعدها ولجنا فضاء آخر، كان مليئا بصور الضحايا المثبتة على الجدار، وكان الدليل يشرح ونهاد القاضي يترجم. ويا لهول ما رأينا. صور ضحايا مجزرة قتل فيها أزيد من خمسة آلاف شهيد، نتيجة غاز سام كانت تنفثه الطائرات العراقية على الشعب الكردي، لا تفرق في ذلك بين إنس و حيوان وتراب. كان استعمال السلاح الكيماوي من تدبير صدام حسين وبتنفيذ من سدنة نظامه، وكان من بينهم وزير داخليته علي حسن المجيد. شاهدنا صور أطفال ورجال ونساء في أوضاع مختلفة، بعد أن فارقت الروح أجسادهم. منهم من كان قرب بركة فسقط فيها بعد أن خنقه الغاز السام. ومنهم من تمدد على الأرض كما اتفق، بعد أن فاجأته القنابل الكيماوية. ومنهم من سقط في الخلاء على مقربة من الجبال الشامخة. وطفل تعثر على عتبة الباب فلا يظهر من جسده الصغير سوى نصفه الأخير. ورضيع، قال لنا نهاد القاضي والعبرات تخنقه، إنه ظل يرضع ثدي أمه المقتولة يومين كاملين قبل أن يتم إنقاذه. وغير ذلك من المآسي التي يصعب سردها، قبل أن نصادف تجسيدا للمجزرة بواسطة النحت. فنرى مشاهد الصور، حية أمامنا تكاد تنطق بهول الفجيعة. بعدها ولجنا فضاء زجاجيا كبيرا جدا وعاليا جدا، ملئا بأسماء الشهداء المكتوبة بخط صغير جدا. الفضاء زجاجي أسود دائري وكبير. يتوسطه ما يشبه مائدة مصنوعة بشكل بديع، من نفس المعدن الأسود. وفي الأعلى قماش كبير به خطوط حمراء وخضراء وبيضاء هي ألوان راية كردستان تتوسطه شمس صفراء هي ذاتها التي تتوسط الراية. عدنا إلى السليمانية والشمس تقترب من المغيب. كانت كمن يربت على ظهورنا معلنة اعتذارها على ما شاهدناه، وعلى كونها سمحت لنا بالتعرف مباشرة على ما كنا ندعي أننا نعرفه ... ولم يخطر على بالنا قط أن يكون على ذلك القدر من البشاعة.