كانت الخيالات تدور في ذهني بشكل غامض عن تلك المرحلة. أذكر أنني سنة 1990 حصلت على جائزة تقديرية وأخرى تشجيعية من الاتحاد العام للصحافيين العرب بتونس، وأذكر أن سنة 1991 كنت أهيئ لإلقاء محاضرة حول حقوق النساء في المغرب في باريس. ولم أفكر أبدا فيما يحصل في العراق. لأن العالم لم يكن قد تحول بعد إلى قرية صغيرة كما اليوم. ولأنني لم أبصر ما يحدث عن قرب. قد يكون الجهل راحة في بعض الأحيان. لكن العلم يظل نورا مع ذلك. اتجه بنا الدليل إلى أول زنزانة. كانت مساحتها كبيرة بعض الشيء، وكانت مظلمة لا وجود لأي منفذ لدخول الهواء. انتبهنا إلى وجود زنازن أخرى قربها، ولا وجود لمكان لوضع الحاجة. وعندما سألنا دليلنا عن دورة المياه، أشار إلى ركن في زاوية مظلمة، لا يوجد فيه سوى مرحاض تركي واحد يقوم مئات السجناء بوضع حاجتهم فيه. بعد ذلك، انتقل بنا في عدد من المرافق التي تحفل بها دائرة الأمن هذه. والتي تحولت في عهد صدام، إلى ملحق للسجن. رأينا زنازن كانت خاصة بالأطفال. وأثارتنا بعض الرسوم التي رسموها على الجدار، مثل رسم يشير إلى طفل مع والده وآخر إلى أحد أبطال الرسوم المتحركة، قبل أن ننتقل إلى مشاهدة بعض أشكال التعذيب التي كانت تمارس في عهد النظام السابق، والتي نحتها أحد الفنانين الذين مروا من هناك. وكان أول ما رأينا، شخصا واقفا في إحدى الزنزانات ينظر في عينينا مباشرة، وكأنه يطلب النجدة من ذلك القهر، قبل أن نمر على شخص واقف في الممر، مثني الظهر ومقيد من إحدى يديه إلى السارية. قيل لنا إنه كان يترك هكذا عدة أيام دون القدرة على الجلوس ولا على الوقوف. ولجنا قاعة التعذيب، وأبصرنا جسدا جاثيا على الأرض، يقبض حارسان على قدميه الموثقتين بحبل إلى عصى غليظة، ويرفعانهما في السماء بينما يقوم ثالث بضربهما بعصا تشبه قضيب الخيزران. ولجنا قاعة خاصة بتعليق المعذبين من أيديهم أو أرجلهم قبل تعذيبهم. ولاحظنا على الأرض آثار دماء من عذبوا. بعدها، ولجنا ممرا مضاء، متعدد المرايا تنبت شموع ضوئية في سقفه، كان قبل ذلك ممرا سريا، يمر منه الجواسيس، قبل أن يتحول إلى مستقبل لمرايا صغيرة ترمز إلى عدد ضحايا الأنفال الذين بلغ عددهم 182 ألف شخص، كما أن الشموع ترمز إلى عدد القرى في كردستان، التي تم تدميرها عن آخرها، والتي بلغ عددها 4500 قرية سواها صدام حسين بالأرض. بعدها ولجنا سجن النساء، وجدنا تمثالا لامرأة حقيقية دخلت حاملا وأنجبت بنتا في السجن. ظلت المرأة هناك إلى أن بلغت الطفلة 6 سنوات. جدران الزنزانة قاتمة. يسود فيها الظلام، ولا يوجد فيها سوى كوة صغيرة تحاذي السقف، ومرحاض تركي في أرضية الزنزانة لقضاء الحاجة. كنت واقفة أنظر إلى ذلك كله، قبل أن يشتط بي الخيال، وأرى تلك الطفلة، ذات السنوات الست، تمرح في الفضاء الضيق الذي كان متاحا لها، ووالدتها تحاول تهدئتها لأنها تخاف عليها من بطش المتربصين من حراس، الذين لا يقبلون سماع شيء يوحي ببهجة أو فرح الأكراد. بينما النساء الأخريات سادرات في الصمت، لا تسمع إلا أصواتهن الهامسة. مررنا من مكان مظلم عبارة عن معرض دائم للصور الفوتوغرافية. لكنها صور لضحايا مجازر صدام حسين من الأكراد. كانت عدة صور من مجزرة حلبجة هناك. مشاهد جثث ملقاة على الأرض كما اتفق. نساء ورجال وأطفال وشيوخ، تهمتهم الوحيدة أنهم كرد، لذلك استحقوا الإقصاء والإبادة، حسب منطق الاستبداد الذي كان سائدا، والذي ما يزال سائدا في بعض الأوساط. شاهدنا أيضا في متحف دائرة الأمن، نموذج لبيت كردي، أثناء فترة الاعتداءات الصدامية على البيوت والقرى الكردية. بيت أثاثه شديد البساطة، في جانب منه خزانة وضع فيها فستان عرس، لشابة قتل خطيبها في حملة الأنفال (استمرت الحملة من 1988 إلى 1991). ظلت تنتظره على أمل اللقاء به، ولم تكن قد جاوزت العشرين من عمرها، وعندما بلغها نبأ مقتله، أقسمت أن لا تتزوج ثانية، وأهدت الفستان إلى المتحف، وقد توفيت قبل سنتين ولما تتجاوز بعد عقدها الرابع. وفي بهو المديرية هناك عدد من الآليات العسكرية، كالمدرعات والدبابات والسيارات العسكرية فضلا عن بقايا صواريخ وقنابل ووسائل خراب أخرى. وما أثارني حقا، هو وجود مجموعة من أصص النباتات موضوعة في أنصاف قنينات بلاستيكية ومعلقة على الجدار الفاصل بين مدخل دائرة الأمن وأول زنزانة. وبما أننا جميعنا كنا مستعدات نفسيا لمشاهدة الأفظع، فقد طرحت السؤال على الدليل حول معنى هذه النباتات، وكنت أتوقع أن يحكي لي حكاية مأساوية ترتبط بها، فإذا به يقول بكل بساطة، إنها موجودة هناك، للدعوة إلى المحافظة على البيئة .(!!)(