ينشد مؤلف هذا الكتاب غابرييل كامب (1927-2002) أن يحيط بعالم البربر في كليته، بدءاً من مصر وحتى جزر الكناري، مروراً بالنيجر والسنغال، بالتوسل بالكثير من العلوم ، من حفريات وجغرافيا وعراقة ولسانيات وفنون... والبربر قد عُرفوا من زمن الفراعنة في مصر، باسم الليبو، واحتلوا المنطقة الشاسعة بين الأبيض المتوسط وجنوب النيجر ومن البحر المحيط إلى مشارف النيل. وأما اليوم فلم يتبق من بلاد البربر هذه مترامية الأطراف غير مزق لغوية ومجموعات بعضها كثيرة العدد، متفرقة منعزلة عن بعضها. والمؤلف ينطلق في بحثه من العصور الموغلة في القدم، ساعياً إلى فهم كيف تعرض البربر للتأثيرات الخارجية، من بونيقية ورومانية وإفريقية وعربية... وكيف أمكن لهم أن يظلوا على وفائهم لعاداتهم وتشبثهم بلغتهم واستمرارهم على أساليبهم في العيش. 9) لا يبدو أن بلدان المغرب كانت بالضرورة مجرد محطة توقف عندها الأقوام البيض أسلاف البربر قبل أن يتوغلوا في الصحراء. الفنانون «البقريون». وظهور المتوسطيين في العصر الحجري الحديث المتوسط، الذي يوافق في الفن الحجري المرحلةَ المسماة البقرية لكثرة رسوم قطعان الأبقار الأليفة فيها، ظهر تغيُّر ملحوظ في السكان. فقد ظهر أقوام من الجنس الأبيض في تاسيلي، وإليهم تعود أجمل الجدرانيات (أسلوب إهرير). لكن الغلبة من الناحية الكمية كانت لذوي البشرة السوداء؛ فالرجال عامة ممشوقو القوام ومعظمهم ذوو لحي صغيرة، فهم على شبه كبير بالفلانيين المتنقلين في منطقة الساحل. وبعض النساء قد جعلن شعورهن على هيأة خوذة شبيهة بتلك التي لا نزال نراها عند سكان حوض النيل إلى اليوم. لكننا نتعرف في هذه المجموعة كذلك على زنوج حقيقيين طويلي الفكين وبارزي الأسنان ومقلوبي الشفاه وقصيري الشعر ومجعَّديه. في المجموعة الأخرى، التي تبدو أقرب عهداً، تطالعنا الوجوه ذات ملامح متوسطية بارزة. فالرجال ذوو شعور طويلة، ومعظمهم ذوو لحي رقيقة ومقرَّنة. وتظهر وجوه الرجال والنساء والأطفال في بعض التصاوير، كتلك التي في ناحية إهرير (أبري كين)، وقد غطيت برسوم أو أوشام. وبينما لا يزيد الرجال في لباسهم عن تنورات، وقد يزيدون إليها أحيانا قبعات مستديرة، ترتدي النساء أثواباً توحى زخارفها بأنها مصنوعة من النسيج. وتبدو النساء في بعض المناسبات وقد تزيَّن على نحو باذخ وارتدين تنورات ذات دوائر وأوشحة طويلة الأطراف. فإذا أقبلن على الأشغال المنزلية ثبّتن إلى لباسهن عند مستوى العجيزة ما يشبه الميدعة من جلد الماعز أو جلد الغزال. إن هذه الرسوم تجيئنا بصورة واضحة لأوائل السكان المتوسطيين الذين توغلوا في الصحراء. ولا يزال يصعب تحديد تاريخ معلوم لوصول هؤلاء الأقوام [إلى الصحراء] أو تحديد أماكنهم الأصلية. وقد عمرت المرحلة البقرية من الألف الرابعة إلى منتصف الألف الثانية [قبل الميلاد]، ولا نزال غير عارفين في أي لحظة من تلك الفترة كان أول ظهور للبيض. والذي يبدو (غير أننا لا نملك من إحصائيات في هذا الموضوع) أنهم قد اشتغلوا بتربية الماشية الصغيرة وفاقوا فيها ذوي البشرة السوداء. ولما كانت تربية الماشية الصغيرة أقل تطلباً من تربية الأبقار فإن هذا الأمر يحملنا على الاعتقاد بأن وصولهم [إلى الصحراء] إنما كان في أواخر الفترة الأسلوبية لدى البقريين؛ مع بداية اشتداد الجفاف. وأما عن أصولهم فالاعتقاد يذهب إلى أنهم ينحدرون من الشمال. فيكون هؤلاء الرعاة حسب هذا الرأي قد صعدوا من المنخفضات الصحراوية الجزائرية التونسية وصاروا باتجاه المرتفعات في وسط الصحراء؛ حيث قد يكونون اتصلوا بأحفاد أشباه الزنوج من العصر الحجري الحديث في الصحراء السودانية. لكن هنالك معطى من طبيعة حيوانية يتعارض بوجه من الوجوه مع هذا الرأي، لأن البقر الذي يربيه «البقريون» البيض أو «السود» ينتمي إلى فصيلتين، الفصيلة الأولى هي طويلة القرون، وتتميز بالقرون الطويلة والمشيقة ذات الشكل القيثاري، والفصيلة الثانية هي قصيرة القرون، وتتميز بقرونها القصيرة والغليظة، والنوعان معاً ذوا أصول شرقية وقد كان لهما وجود في مصر خلال الفترة ما قبل الحكم الفرعوني. وفي المقابل قام الرعاة المغاربيون بتدجين الفصيلة الصغيرة المحلية، التي لا نكاد نجد تمثيلاً لحضورها في الصحراء؛ بل إن تصاوير عديدة للفصيلة قصيرة القرون قد تم التعرف عليها في المحطات الصخرية في جبال الأطلس، ووجِدت خاصة في جنوب المغرب. فلا يبدو أن بلدان المغرب كانت بالضرورة [مجرد] محطة توقف عندها الأقوام البيض قبل أن يتوغلوا في الصحراء. ومن الممكن أن يكون هؤلاء الأقوام جاءوا مباشرة من الشرق، وأنهم التفوا على تيبستي من جهة الشمال، بل ربما يكونون إنما جاءوا إلى وسط الصحراء عبر فزان بعد أن ساروا بمحاذاة شواطئ برقة. «الخيليون»، سائقو العربات لقد صارت الأهمية الاجتماعية، وربما الديموغرافية، للأقوام المتوسطيين في تزايد خلال المرحلة اللاحقة التي توافق العصر الحجري الحديث الأخير والأزمان شبه التاريخية. وتعرف هذه المرحلة على الصعيد الفني بالعصر الخيلي ويسمى بالخيليين الأقوام صاروا منذ ذلك الوقت يربون الخيول، ويعنون بتصويرها في رسوماتهم الجدارية. ويشكل ظهور الحصان في إفريقيا ظاهرة تاريخية سابقة بقليل على غزو الهكسوس لمصر، وهو أمر كشفت عنه أعمال التنقيب التي وقعت في النوبة. وقد صار الحصان معروفاً على نطاق واسع في مصر ابتداء من القرن السادس عشر قبل الميلاد. ويسلم الباحثون بأنه أخذ في الانتشار سريعاً من هناك عبر الصحراء ليصل بعدئذ إلى شمال إفريقيا. ومن هذا الحصان الأول بقي نوعان متشابهان إلى اليوم؛ أحدهما على النيل السوداني وهو نوع الدونجولا، والآخر في بلدان المغرب وهو النوع البربري. وهذا الحصان الإفريقي، بنوعيه الدونجولي والبربري، يمتاز ببعض الخصائص؛ فليس له مثل الحمار غير خمس فقرات في العنق بخلاف سائر الخيول التي تكون عندها ستاً. ورأس هذا الحصان بالغة الكبر ومحدبة الجانب وكفله قصير وضامر ومنبت الذيل واطئ. والحصان يفتقر إجمالاً إلى الرشاقة، لكن صفات التحمل والصبر على الجوع والعطش وتأمين السير في الأراضي الجبلية قد جعلت منه رَكوبة ثمينة. والحصان البربري كان هو الركوبة للخيالة الخفيفين البارعين الذين اضطلعوا، من ماسينيسا وإلى الأمير عبد القادر، بدور حاسم على امتداد تاريخ المغرب الكبير! ويسلم مدجنو الحيوانات وغالبية علماء الحفريات بأن الحصان البربري يعود بأصوله إلى الشرق الأوسط. لكن منهم من زعم أن هذا الحصان هو ذو أصل محلي في شمال إفريقيا أو يعود إلى أصول أوروبية. وهما مقترحان لا يمكن القبول بهما. فالمواقع التي تناولتها الحفريات والتي تعود إلى العصر الحجري القديم والعصر الحجري الأعلى في بلدان المغرب لم تسفر قط عن بقايا أحفورية غير تلك التي تعود إلى حصان زردي وحصان حماري. وأما النقوش الكثيرة الموجودة في جبال الأطلس، والتي تمثل صوراً لخيول معظمها مركوبة، فهي نقوش تعود إلى أزمنة متأخرة، وإلى ما بعد الألف الثانية بوقت طويل. ومن اليسير التعرف على الرسوم والنقوش التي أنجزها الخيليون، وذلك بفضل أسلوبهم شديد الخصوصية. ومع ما تمتاز به هذه الأعمال من جودة فنية كبيرة فإنها أقل واقعية من المشاهد البقرية الكبيرة. فهيئات الحيوانات وحركات الأشخاص المرسومة أكثر تصلباً، وهنالك جزئية مهمة وهي أن الوجوه غير مبيّنة بل تُستبدل دائماً بألواح أو أعواد مفلوقة؛ فالأمر يتعلق بمحظور حقيقي. وأصبحت البقريات بنقص أعدادها الناجم عن اشتداد الجفاف تصوَّر وهي واقفة على قوائم متصلبة، أما الخيول فمعظمها مرسومة وهي في حالة «عدْو طائر» وعلى هيأة قارة لا تتبدل لكن فيها حيوية، وقد شُدت إلى عربات خفيفة يقودها حوذي واحد. ولقد أولى المؤرخون اهتماماً إلى هذه العربات الصحراوية، ويمكننا القول إنه اهتمام يعود إلى بدايات التاريخ؛ فهذا هيرودوت قد أشار إليها مرتين. المرة الأولى في قوله إن الجرمنت الذين سكنوا فزان الحالية وتاسيلي نعاجر كانوا يطاردون الإثيوبيين وهم ركوب على عرباتهم ذات الأربعة خيول. والمرة الثانية ليؤكد أن الليبيين هم من علم الإغريق كيف يشدون إلى العربات أربعة خيول. وربما كانت هذه الدعوى [الأخيرة] لا تخلو من أهمية، بالنظر إلى التشابهات المثيرة بين رسوم المزهريات لدى الإغريق في المرحلة الهندسية (خاصة مزهريات ديبيلون)، والرسوم «الخيلية»؛ بل إن الرسوم العامة غير المبينة لملامح الخيول وجهاز سائقي العربات لا تعدم تشابهات مثيرة. ومع ذلك فالعربات الصحراوية تكون بجوادين، وليس في غير فزان، وهي بلاد الجرمنت على وجه التحديد، توجد نقوش نادرة تظهر عليها عربات من ذات الأربعة جياد. وإن خفة العربات الصحراوية ذات الجوادين لتفند الفكرة القائلة إن هذه العربات كانت تستعمل في نقل البضائع؛ بل إن من المتعذر أن يركبها شخصان اثنان بسبب من ضيق المقعد المصنوع من سيور الجلد المضفورة. وما يزعم أنها «طرق العربات»، والمرسومة بصورة عشوائية على الخرائط من خلال ربط النقاط حيث توجد رسوم العربات، ليست حتى سبلاً للسير فيها على الأرجل. والواضح أن العربات قد رسمت في مواضع لا يمكن أن تكون مرت بها؛ مثل الأنقاض والمرتفعات التي لا تقدر الجمال والحمير على بلوغها إلا بعسر ومشقة. فمن هذا الذي ذكرنا يوحى إلينا أن العربة الصحراوية كانت آلة للتباهي أكثر مما كانت وسيلة للاستخدام النفعي. أوَلم يكن كذلك شأنها في «الإلياذة»؛ التي تصور لنا الأبطال وهم يركبون عرباتهم ليذهبوا إلى ميدان القتال، لكنهم يتقاتلون راجلين؟