يرتبط حضور المسلسلات التلفزيونية بالطقوس العائلية، فقلّما تقتصر الرؤية على شخص منفرد ومنعزل، لا سيّما إذا كان المسلسل جماهيرياً يدغدغ الوجدان الشعبي أو الديني، فهو بذلك يخاطب ضمير الجماعة، ويخاطب ذاكرتها ومخيّلتها. وتستعيد الأحياء الشعبية، وهي تتحلّق حول التلفزيون بعضاً من لُحمتها الاجتماعية وتكتّلها وتجانسها. بل هي تخلق عند أبنائها بحرصهم على المتابعة الدؤوب لموضوعهم الأثير زمناً تلفزيونياً، لا يمكن اختراقه او المساس به بأي طريقة. يغدو هذا الزمن المكرّس لمتابعة المسلسل أقرب إلى الزمن المقدّس، ويُعدّ احترامه أمراً مفروغاً منه. وكلّ محاولة لكسره يستعظمها الحاضرون، ويصدّونها مستنكرين مستهجنين. ربما كان مسلسل «باب الحارة» أحد الأمثلة الصارخة على ذلك. وقد شاهدت في هذه الأحياء كيف يلتف الصغار والكبار كل ليلة حول هذا المسلسل، بكثير من الاستمتاع الروحي، كأنّه فرض ديني يومي لا يمكن التخلّي عنه، أو تأجيله إلى حين. فتوقيت عرضه هو زمن فوق دنيوي. وحضوره واجب لازم. هو وقت الجماعة التي تستعيد من خلاله كبرياءها الذاتي وتاريخها وتراتبية سلطاتها والإذعان لمقتضياتها وضروراتها. التلفزيون مكان المتعة هذا، وهو يعرض أمثال هذه المسلسلات، يغدو مكاناً للتربية، ولتمثّل القيم والأعراف، والتماهي مع الأبطال الحقيقيين والافتراضيين، ويتحوّل إلى ضرب من ضروب التعويض بفعل الحرمان والاضطهاد والقمع، فالثقافة التلفزيونية، أضحت الثقافة المجانية المتاحة للكتلة الشعبية الأمية والفقيرة. والمسلسل، وهو بنية مركّبة وممتدة زمنياً، مؤهل للقيام بأعباء العمل التربوي والتلقيني والإيحائي. ويستجيب لمزاج جمهور المشاهدين وحاجاتهم ومواقعهم الاجتماعية والثقافية. وهو يعمل تحت تأثير مباشر وغير مباشر للتصوّرات الإيديولوجية لدى من هم وراء إنتاج هذا المسلسل أو ذاك. وتشكّل أجواء رمضان فرصة سانحة لخلق زمن جماعي ذي بُعد ديني، يُساعد على لمّ شمل الأسرة حول المسلسلات المتكاثرة التي تتنوّع بين عاطفية وتاريخية ودينية وسياسية. ولأنّ زمن البث التلفزيوني غير محدود، فإن اختيار شهر رمضان الذي يفرض على المسلمين إيقاعاً يومياً، وطقوساً معيّنة. هو الوقت الأكثر ملاءمة للعرض، لأنّه فترة الذروة، ولأنّ مائدة الإفطار التي تجتمع حولها العائلة المكان الأنسب للتسمّر أمام التلفزيون، ورؤية المسلسلات، واستهلاك الوقت، والفرصة السانحة لاستثمار الإعلان التلفزيوني الجيد. ومثل سائر الناس حضرت، أو أُرغمت لسبب أو آخر، على حضور مسلسلات تابعت فيها بعض الحلقات أو نصفها أو جلّها. ولم أُكمل إلا النادر من المسلسلات التي كانت بدايات معظمها طيبة، وأفضل من نهايتها، مثل مسلسل «ما ملكت أيمانكم» الذي انتهى إلى تسوية تصالحية مشبوهة بين الديني والعسكري. كان بعض إعجابي مقتصراً على موضوع «الجندرة» حيث انتقدت كاتبة السيناريو هالة دياب تكريس الثقافة الذكورية السائدة في مجتمعاتنا، والقائمة على استلاب المرأة ومصادرة جسدها. وعلى استغلال أصحاب النفوذ والمال مشاعر النساء وعوزهن. وحيث تطرّقت إلى موضوع الاغتصاب الجنسي للأطفال، وسوى ذلك من موضوعات اخترقت المحظور والمحرّم حسب أعرافنا، ما استفز الشيخ رمضان البوطي، فرمى مصائب الدنيا عليه، وأرجع بكل بساطة ظاهرة احتباس الأمطار آنذاك، إلى بثّ هذا المسلسل الدرامي المشؤوم على الشاشات السورية والعربية. ولم أكن قد أكتشفت قبل ذلك أن للتلفزيون صلة بالظروف المناخية، ودوراً في تقلّبات الطبيعة! الرسائل المضمرة لكن الدراما التلفزيونية العربية ليست دائماً المكان المفضّل لمعرفة حركية المجتمع العربي وتطلّعاته، أو التعبير عن القمع والفساد وعدم المساواة. بل تُوظّف الدراما أحياناً في الترويج لخطاب السلطة في لحظات أزماتها الداخلية والخارجية. وتشكّل موضوعاتها السياسية المنضبطة على إيقاعها صمام أمان، يتيح للجماهير أن تنفّس عن إحباطاتها، أو تُفرّج عن مكامن التوتر في أعماقها. من الأعمال الدرامية التي يجب أن توضع في سياقها التاريخي أو السياسي لكشف معانيها المضمرة، أو الرسائل الخفية التي يريد أصحابها إيصالها للمتلقي، مسلسلان شاهدتهما، أحدهما قديم، هو «أخوة التراب» لنجدت أنزور، وقد تابعته عهدذاك بشغف لما تمتّع به من قدرات تصويرية رائعة، ولغة سينمائية أقحمها في الفضاء التلفزيوني. وبالعودة إلى السياق السياسي في عام 1996 الذي أُخرج فيه أنزور مسلسله، يتجلّى لنا انّ الصورة القاسية التي قدّمها المسلسل عن المحتل العثماني ليست إلاّ ترجيعاً للحالة السياسية العدائية بين السلطة السورية والسلطة التركية التي استحكمت بينهما في تلك الحقبة. لكن سرعان ما تبدّدت أجواء الاحتقان بين البلدين، وكانت ثمرة عودة المياه إلى مجاريها المسلسل الدرامي الأحدث وهو «أهل الراية» الذي أخرجه سيف الدين سبيعي، وأظهر فيه كل أمارات الودّ والتعايش بين العرب والأتراك، مكللة بالتحالف العسكري في وجه عدوهما المشترك. وكان هذا الاتجاه تعبيراً عن نصاب سياسي إيجابي، سلكه الطرفان ذاك الوقت. وأعقب ذلك دبلجة المسلسلات التركية إلى اللهجة السورية. ولا ندري اليوم رلي اين ستفضي هذه العلاقة الفنية المنوطة بمنسوبها السياسي، في ظلّ عودة التوتر والاحتقان بين البلدين؟ لكن أعمالاً أخرى تتحايل على آليات المراقبة الحكومية، وتحتلّ المساحة المتاحة لانتقاد أداء مؤسسات الدولة، من دون المساس بهيبة الحاكم ومكانته، فتتطرّق إلى الفساد السياسي والاستغلال والادّعاءات الإنشائية للخطاب الرسمي، وتقوّض الآثار الانضباطية التي تلازم هذا الخطاب السلطوي. وتُعدّ الأعمال الكوميدية والرسوم الكاريكاتورية والنكات فضاءً مجازياً، يمثّل بديلاً لفضاء البلاغة والصور الرسمية، حيث تُنتَقد وتُنتَهك، ويعبّر المشاركون بذلك عن أشكال من المقاومة ومن الشجاعة الساخرة، حسب ليزا وداين في «السيطرة الغامضة». البديل المجازي في هذا المقام مسلسل «ضيعة ضايعة» لا بأجوائه القروية ولهجة الأهالي الطريفة، ولكنتهم المحلية الغريبة. بل بقدرة كاتبها ممدوح حمادة على مراوغة عين الرقيب، إذا صحّ انه كان غافلاً، لخلق عالم رمزي ساخر معادل للبنية السياسية اليومية التي يمارسها النظام. يقوم على تمثيل الحاكم برئيس المخفر، وحاشيته بأفراد الشرطة، ووضعهم في موضع المفارقات اليومية مع أبناء القرية، حيث يُمارسون عليهم سلطة مفرّغة من مضمونها الحقيقي. وأكثر الموضوعات التباساً في نظري، هي ما تمثّله الدراما الدينية. المائدة الرئيسة في كل موسم رمضاني. ومصدر الالتباس لا يعود فحسب إلى السجال الحادّ بين رجال الدين الأصوليين حول تحريم تمثيل الأنبياء والصحابة والأولياء والمعصومين، بوصف تمثيلهم او تجسيد أعيانهم عبثاً واستخفافاً وانتهاكاً للقداسة التي يتمتّع بها هؤلاء. إنّما لما يستتبع عرض هذه المسلسلات الدينية الخاضعة لتصورات كهنوتية ولاهوتية، من استقطاب، ومن شحن طائفي أو مذهبي بين المشاهدين. وقد أثار مسلسل «يوسف الصّدّيق» على شاشة «المنار»، وهو مسلسل إيراني مدبلج، تحفّظ العديد من رجال الدين الأزهريين والسعوديين عليه بذريعة تحريم الإسلام تصوير الأنبياء. ولكن هذا التحفّظ حمل في طياته موقفاً خفيّاً من المسلسل، لأنّه إيراني. ولم يتطرّق الطاعنون فيه إلى مثالب المسلسل الفنيّة أو لغته التصويرية، بل حال النفَس الإيديولوجي الديني المذهبي، دون النظر إلى مقوّمات العمل من وجهة نظر نقدية او فنيّة محترفة. بيد أنّ المسلسل في مضمونه وسرديته وخلفيته الفكرية، يتجاوز السيرة الى تطعيمها وتلوين أحداثها بفكرة «المنقذ» المعادل لفكرة «المهدي» الأثيرة عند الشيعة الإيرانيين. كذلك دفع مسلسل ديني آخر هو «مريم المقدّسة» من إنتاج قناة «المنار» اللبنانية رجال الدين المسيحيين، إلى استنكار بثّه على الشاشة، لأنه زيّف الصورة الإنجيلية للسيدة مريم. ودعا المطران «آنذاك» بشارة الراعي، إلى توقيف المسلسل مراعاة لحق الكنيسة الحصري في إخراج الصورة الوحيدة التي كرستها. والموقف الإرتيابي هذا، ناجم من صلب البنية العقائدية التي تعتبر الكنيسة وحدها المأذون لها دون سواها، بنشر صورة مريم والمسيح وقديسيها. كذلك هي الحال في كل مذهب أو طائفة أو دين يحتكر وحده صورة أو سيرة مؤسسية وبُناته وأعلامه. والواقع أنّ بين صورة السيدة مريم في القرآن، وصورتها في الكنيسة او الإنجيل فارقاً لاهوتياً شاسعاً لا يمكن أن تردمه النيات الحسنة، ولا يمكن أن تُفهم رسالة «المنار» في تودّدها إلى الضفة الثانية من الوطن، إلّا أنّها تجاوزت حدود السياسة ومناوراتها، إلى اختراق متن العقيدة المترسّخة في النفوس. وعليه لا يمكن للمصالح السياسية المؤقتة أن تزعزع ما بُني على ثوابت وأصول. عديدة هي المسلسلات التي يدفعني فضولي إلى متابعتها جزئياً أو كلّياً. لكنني لا أغفر لمعظمها ضحالتها الفكرية، وخلوّها من البُعد المعرفي. والمعرفة ضالتي في كلّ عمل. والأكيد انّ هذه الضّالّة ليست مرام الجميع، بل تُستبدل عند كثير من الناس بالترفيه وتزجية الوقت. وعموماً أفتقد في التلفزيونات العربية مسلسلات الخيال العلمي التي تعبّر عن طموح معرفي. وأفتقد الدراما البوليسية المليئة بالألغاز التي تحرّض الفكر لفكّ الحبكة، أو استباق الحلّ. والتي تنشّط الخيال الخلّاق، وتحبس الأنفاس. بيد أن ما يطغى على الحياة التلفزيونية العربية، هو المزيد من الدراما العاطفية المكرّرة والجاهزة. المزيد من الاسترخاء الذهني والبلادة والاجترار. عن «السفير»