قرار محكمة العدل الأوروبية: هولندا تجدد تشبثها الراسخ بالشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب        "احذروا".. زخات رعدية قوية مصحوبة ب"التبروري" وبهبات رياح غدا الأحد بعدد من المناطق    وفاة الفنانة نعيمة المشرقي أيقونة الدراما المغربية    "لا يقول صباح الخير".. لويس سواريز يهاجم مدرب المنتخب مارسيلو بييلسا    التوقيع بالجديدة على إعلان نوايا مشترك لتعزيز التعاون المغربي الفرنسي في قطاع الخيول        مجلس جماعة امطالسة يصادق على ميزانية 2025 وتمويل اقتناء عقار لاحتضان مركب للتكوين في المهن التمريضية    الممثلة نعيمة المشرقي في ذمة الله    وفاة الممثلة القديرة نعيمة المشرقي بعد مسار فني حافل بالعطاء    توقيف شخص بطنجة لتورطه في قضية تتعلق بالسرقة بالعنف باستعمال السلاح الأبيض    "محكمة العدل" تغرد خارج سرب التوافق الأوروبي .. عيوب شكلية ومعالجة مُسيسة    عام على الإبادة... أوقاف غزة: إسرائيل دمرت 79 في المائة من المساجد و3 كنائس واستهدفت 19 مقبرة    رحيل أيقونة الفن المغربي نعيمة المشرقي    معاناة 40 بالمائة من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050 (دراسة)        البكوري: عملنا يستند على إعمال مبدأ القانون في معالجة كل القضايا مع الحرص على المال العمومي    استجواب وزيرة الانتقال الطاقي أمام البرلمان عن الفجوة بين أسعار المحروقات في السوقين الدولية والوطنية    الجامعة تحدد أسعار تذاكر مباراة الأسود وإفريقيا الوسطى    السكوري يُطلق منصة رقمية لخدمة التشغيل    انتقادات للبطء الشديد في عملية إعادة إعمار مناطق زلزال الحوز    "أطباء لبنان" تطلق نداء عاجلا لوقف "مجزرة" إسرائيل بحق الجهاز الصحي    هيئة: أكثر من 100 مظاهرة في 58 مدينة مغربية تخليدا للذكرى الأولى لمعركة "طوفان الأقصى"    رسالة بنموسى في اليوم العالمي للمدرس    جيش إسرائيل يقصف مسجدا بجنوب لبنان    شركات يابانية تلجأ إلى الذكاء الاصطناعي لتعويض نقص العمالة    حزب الله يستهدف قاعدة جوية في حيفا        من قرية تامري شمال أكادير.. موطن "الموز البلدي" الذي يتميز بحلاوته وبسعره المنخفض نسبيا (صور)    دراسة تكشف معاناة 40 % من أطفال العالم من قصر النظر بحلول 2050    وزير الإعلام الفلسطيني يزور مقر الفيدرالية المغربية لناشري الصحف بالدار البيضاء    خبراء "نخرجو ليها ديريكت" يناقشون قرار محكمة العدل الأوروبية    قافلة المقاول الذاتي تصل الى اقليم الحسيمة    بعد قرار محكمة العدل الأوروبية.. هنغاريا تؤكد على الشراكة الاستراتيجية مع المغرب وتدرس تطويرها وتوسعتها لمجالات عدة    الحسيمة.. تخليد الذكرى 69 لانطلاق العمليات الأولى لجيش التحرير بالشمال    محكمة التحكيم الرياضي تخفف عقوبة توقيف بوغبا        كيوسك السبت | مثقفون ورجال قانون وأجانب قاطعوا الإحصاء العام للسكان والسكنى    "ميتا" تعلن عن إنشاء نموذج ذكاء اصطناعي جديد    طقس السبت ممطر في بعض المناطق    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    مدرسة التكنولوجيا تستقبل طلبة بنصالح    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الباحثة الاجتماعية رحمة بورقية ل «الاتحاد الاشتراكي» لا يقدم مفهوم «الدولة المدنية» أي نموذج للحكم لحل إشكال العلاقة بين السياسي والديني

في هذا الحوار الهام مع الباحثة الاجتماعية رحمة بورقية، تلقي الضوء على مستويات متعددة من الراهن السياسي والثقافي المغربي. ومن ثمّ، فإنها تبيّن أن الدين لا يطرح أي مشكل للمغاربة لأن الأغلبية الساحقة مسلمة ولا تحتاج إلى أسلمة جديدة أو تكون هناك مزايدة بالدين، لأن كل مزايدة من هذا النوع تهدد التماسك الاجتماعي. كما توضح أنّ مفهوم ‹›الدولة المدنية›› لا يقدّم أي نموذج للحكم لحل إشكال العلاقة بين السياسي والديني. وبالتالي فهي كباحثة اجتماعية تميز بين التعبير عن الدين في الفضاء الخاص الذي يتعلق بكل فرد مسلم وبدرجة إيمانه والتعبير عنه، وهذا أمر لا دخل للدولة فيه، وبين ظاهرة استعمال الدين في الفضاء العام، والسياسي هو فضاء عام. وبخصوص التحوّلات التي تعرفها المجتمعات اليوم في عصر العولمة، تبرز أنه لم تعد الإيديولوجيات الكبرى هي التي تؤطر الحركات الاجتماعية، لأن المجتمعات نفسها لم تعدْ منظمة أساسا على طبقات اجتماعية وبوعي طبقي، وإنما أضحت الانقسامات العمودية الفئوية تبدو أكثر من الانقسامات الأفقية الطبقية.
{ بعد مرور أزيد من 150 يوم على تنصيب الحكومة الحالية بأغلبية إسلامية، هل يمكن القول بأن ملامح الحضور الديني في التسيير الحالي باتت واضحة المعالم؟
يجب في تقديري أن نستعمل مسميات الظواهر. أقول حكومة ‹›بأغلبية حزب العدالة والتنمية»، عوض ‹›أغلبية إسلامية››. لا يمكن أن يحكم المرء على حكومة ويقيم عملها بعد 100 يوم فقط، ولكن يمكن أن نسائل بعض المؤشرات كمداخل للتحليل للجواب عن سؤالك. وأنا أضع نفسي في موقع المحللة لا ‹›الحكم›› على حكومة.
قد يتخلل عمل هذه الحكومة إشهار بعض القضايا التي لها علاقة بالدين لأنها تتقدم كحكومة يتزعمها حزب كان يقدم نفسه بمرجعية دينية. غير أن هذا الجانب لا يمكن أن يكون برنامجا حكوميا لسببين أساسيين : أوّلا لأنّ الدستور في الفصل 41 ينص على أن ‹›الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية››، فالمسؤولية على الحقل الديني تعود إذن للملك . ثانيا يجب اعتبار أن الأغلبية الساحقة للمغاربة هم مسلمون. ففي كل الدراسات التي أنجزت، سواء تعلق الأمر مثلا بالبحث حول القيم الذي أنجز في 2004 أو البحث حول ‹›الرابط الاجتماعي›› الذي أنجزه المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية في 2011، عندما يطرح على الناس سؤال حول ما هو الإنتماء الأهم للمغاربة، يبرز الإسلام كانتماء أساسي. إذن ماذا يمكن أن نستنتج من هذا المعطى ؟ الجواب هو أن الدين لا يطرح أي مشكل للمغاربة لأن الأغلبية الساحقة مسلمة ولا تحتاج إلى أسلمة جديدة أو تكون هناك مزايدة بالدين ، لأن كل مزايدة من هذا النوع تهدد التماسك الاجتماعي. وأعتقد أن الحكومة تعرف هذا, ولذلك فما ستقوم به من مشاريع و برامج على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي هو الأهم. لا يجب أن ننسى أن هذه الحكومة جاءت بعد الربيع العربي وبالتالي تقدم فيها حزب العدالة والتنمية كبديل لمعالجة قضايا الفساد وسن سياسة اقتصادية اجتماعية. ففي التدخل الأخير لرئيس الحكومة حول الوضع الاقتصادي لم يركز على إجراءات تخص الجانب الديني، بقدر ما برر إجراءات لحل المعادلة الصعبة بين السياسة الاجتماعية وحفظ التوازنات الاقتصادية والمالية. وبالطبع ينتظر الناس ما سيسفر عنه هذا الحل.
{ يعتبر الأستاذ عبد الله العروي أن المجال الديني ينبغي أن يبقى بين يدي الملك, لأن ذلك في مصلحة البلاد، ما الدافع في نظرك إلى هذا القول؟ ألا يمكن القول بأن المغرب يعيش التباسا ما بين الخطاب الديني والخطاب السياسي؟ هل هذه مسألة طبيعية في رأيك؟
عندما نحلل واقع المغرب بالنسبة للبلدان الأخرى ندرك أنه على الرغم من كون الربيع العربي قد مسّ كل البلدان العربية فقد مسّ المغرب بدرجة أخفّ. غير أن الأمر الأساسي هو أن كل هذه البلدان العربية الإسلامية هي في حاجة إلى توضيح العلاقة بين الدين والسياسة. نحن هنا أمام مشكل محوري في تشكيلة الدولة في مجتمع أغلبية سكانه مسلمون. لقد أصبحنا نسمع عن ‹›الدولة المدنية›› في تونس وفي مصر كبلدين تصدرت فيهما الأحزاب الإسلامية الانتخابات. غير أن المعنى الذي يمنح ‹للدولة المدنية›› يفهم منه معنى دولة ‹›ضد عسكرية›› وليس العلمانية، وبالتي نحن أمام كلمة فارغة وبدون مضمون . لا يقدم مفهوم ‹›الدولة المدنية›› أي نموذج للحكم لحل إشكال العلاقة بين السياسي والديني. ونحن نعلم أن البلدان الأوربية حسمت الأمر بالعلمانية التي تفصل بين الدين الذي تمثله الكنيسة وتسيير شؤون الدنيا الذي لا دخل للكنيسة فيه.
ونحن نعلم أيضا أنه لا وجود لكنيسة في الإسلام، وبالتالي هناك ضرورة لوجود نموذج لفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. ولذلك يقدم المغرب نموذجا لهذه العلاقة في بلد إسلامي, فإمارة المؤمنين هي من مهام الملك كرئيس للدولة، وأنّ الحقل الديني باعتباره حقلا في الفضاء العام فهو يخضع للهيكلة والتنظيم. إنني أميّز هنا بين التعبير عن الدين في الفضاء الخاص الذي يتعلق بكل فرد مسلم وبدرجة إيمانه والتعبير عنه، وهذا أمر لا دخل للدولة فيه، وبين ظاهرة استعمال الدين في الفضاء العام ( والسياسي هو فضاء عام)؛ وعندما يكون هذا الاستعمال في الفضاء العام، فهو يحتاج إلى تنظيم في إطار هيكلة الدولة لضمان الحدود بين تأويل وتأويل آخر للدين دون أن تهيمن فئة حاملة للتأويل على أخرى. وأنا أقول بأننا ما زلنا في حاجة إلى تأطير نظري لهذا النموذج للمزيد من الوضوح ولضمان حرية المعتقد. وهذا عمل يجب أنْ يقوم به الباحثون والمفكرون الاسلاميون المتنورون بكل موضوعية ونزاهة فكرية لمصلحة البلاد.
{ هل تتفقين مع من يعتبر حضور «العدالة والتنمية» في المشهد السياسي هو تحييد وتهميش لباقي التشكيلات الإسلامية وفي مقدمتها العدل والإحسان؟
الحديث عن التحييد و التهميش معناه وجود إرادة تحيّد وتهمش، والواقع أن جماعة العدل والإحسان هي التي اختارت منذ نشأتها أن تكون خارج المنتظم السياسي، عكس حزب العدالة والتنمية الذي اختار العمل داخله، وبالتالي اختارت الجماعة أن تحتل الهامش وتكون خارج ذلك المنتظم. غير أن هذا الوضع لا يجعلها اليوم حركة سرية؛ فهي تنشط في العلن ، وبالتالي فتلك العلنية تدخلها بشكل أو بآخر في الرقعة السياسية التي تريد هي أن تكون خارجها.
{ ما يعرفه العالم العربي من حركات احتجاجية وثورات، إذا صحّ مفهوم الثورة، يبرز لحدّ الآن حقيقة أن المجتمعات العربية كلها، ومنها المغرب، مؤطرة بثقافة تقليدية راسخة، تتجلى تمظهراتها في هيمنة الخطاب الديني في صيغته الشعبوية. هل تتفقين أستاذة بورقية مع هذا الحكم؟
هناك بعض المعطيات السوسيولوجية التي وجب اعتبارها كعوائق أمام الثقافة الديمقراطية. هناك ظاهرة شرائح عريضة من الناس تعيش الفقر والأمية وما يترتب عن ذلك من فقر فكري وضعف القراءة. وهناك فئة من شباب المدن بوعي سياسي ولكن بدون تأطير سياسي. وهناك شرائح اجتماعية عريضة من الفئات الوسطى قلقة على توقف مصعدها الاجتماعي. وهناك ثقافة سياسية تهيمن عليها ثقافة الريع السياسي تتجلى في الصراع الذي يحتد حول المناصب أو النفوذ . وهناك ثقافة سلطوية ما زالت تحيا بيننا لدرجة أنها تقصي النساء. كل هذه الظواهر لا تساعد على إفراز ثقافة ديمقراطية ؛ وبالتالي فالمجتمع الذي هو في مسار ديمقراطي يعيش ضعفا في الأسس الثقافية والاجتماعية للديمقراطية. لقد كتب عالم الاجتماع بارنتون مور (Barrington Moore) كتابه ‹›الجدور الاجتماعية للديكتاتورية والديموقراطية›› في 1966 يحلل فيه الأسس الثقافية والاجتماعية للنظامين. ونستنتج من هنا أن الديمقراطية هي مؤسسات, ولكن هي أيضا ثقافة وقيم. ولقد أبرزت التطورات التي عرفتها تلك ‹›الثورات›› أو الاحتجاجات في البلدان العربية أن هناك هوة بين المناداة بالديمقراطية وبين وجود مقومات ثقافية واجتماعية للديمقراطية. ولذلك فالانتخابات عندما تغيب أسسها الثقافية والاجتماعية وقيمها قد تؤدي إلى احتمال وصول أشخاص إلى السلطة بثقافة وثوقية أو لا ديمقراطية، أو بمواصفات بدون كفاءة عالية. ولذلك فنزاهة الانتخابات ووجودها هما أمران ضروريان لكل بناء ديمقراطي، لكن غير كافييْن في غياب مقومات ثقافية ديمقراطية ومشاركة سياسية بوعي وبكفاءة. يجب أن نشير هنا إلى كون الثقافة السياسية التي تؤطر الديمقراطية وتقوم على قيم كونية تكتسب عبر التربية والتكوين في المدرسة والجامعة وداخل أحزاب لها مشاريع للتنشئة السياسية الديمقراطية، وعبر النقاش في الفضاء العام يساهم فيه الإعلام والتلفزيون العمومي. أما فيما يخص الخطاب الشعبوي الذي غالبا ما يلازم الحملات الانتخابية، فعندما يستمر ذلك الخطاب لمرافقة التدبير السياسي بعد الانتخابات ، فقد يكون له تأثير على الناس لأنه يستجيب لما يريدون أن يستمعوا إليه، ولكنه عندما يمر بعض الوقت ولا يترجم مضمونه إلى عمل ملموس أو إلى سياسة اجتماعية، فقد ينتج عكس ما كان يهدف إليه.
{ هذه الحركات التي تحدث اليوم في العالم العربي تفتقد ربما إلى إيديولوجيا واحدة وموحدة، ويغلب عليها الطابع المطلبي، مطالب جماهير تريد الأشياء الملموسة، في حين يتم تكييف هذه المطالب من أجل إعطائها البعد الديموقراطي. بمعنى آخر، فإن النخب السياسية تعمل على تأطير رسمي وتكييف هذه الاحتجاجات.
ينبغي أن نضع هذا الأمر في سياق التحوّلات التي تعرفها المجتمعات اليوم في عصر العولمة. لم تعد الأيديولوجيات الكبرى تؤطر الحركات الاجتماعية، لأن المجتمعات نفسها لم تعدْ منظمة أساسا على طبقات اجتماعية وبوعي طبقي، وإنما أضحت الانقسامات العمودية الفئوية تبدو أكثر من الانقسامات الأفقية الطبقية. بل وتتعدد هذه الانقسامات الفئوية وتتفرع بشكل مستمر حول انتماءات ثقافية أو هوياتية أو مهنية. كما أن هذه الانتماءات تنتظم في إطار شبكات سهل التواصل داخلها بواسطة الوسائل الحديثة للتواصل كالتلفون والأنترنيت والشبكات الاجتماعية الافتراضية. بالإضافة إلى ذلك، نجد أنّ كل فئة إلا وهي حاملة لمطالبها بدون اللجوء إلى مؤسسات الوساطة في المجتمع كالأحزاب والنقابات لتحدث هيئات أو جمعيات خاصة بها للدفاع عن تلك المطالب، كما هو الشأن بالنسبة للمعطلين أو المتقاعدين أو الذين لهم احتياجات خاصة بكل أنواعهم أو كل الفئات المهنية وغير ذلك... نحن أمام واقع جديد يتطلب تغييرا عميقا لأطر الوساطة السياسية والنقابية ولطريقة تنظيمها واشتغالها وإلا ستصبح الأحزاب والنقابات متجاوزة أمام بروز فيض من التنظيمات تؤطر الفضاء العام يجعل كل حكومة في ارتباك أمام التعدد المستمر للهيئات التي تمثل المصالح الفئوية.
{ بخصوص الحداثة، فإن السؤال هو: إلى أي حد يعتبر الحراك العربي شكلا من أشكال الحداثة، هل صحيح أننا اليوم أمام جيل حيوي، استفاد من التقنية، يناضل من أجْل حقه في الحياة، بعيدا عن أية مدونة إيديولوجية ورابطة قومية وعن أية منظومة عقدية؟
لقد أبرز الربيع العربي وجود ظاهرة فئة من الشباب متعلّم منفتح على العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة وله قدرة المقارنة بين ما يعيشه في واقعه بكل إكراهاته وما يوجد في بلدان أخرى من حفظ الحقوق والحريات. فهذه الفئة هي التي انطلقت معها الاحتجاجات .
جاء الحراك العربي من حيث طبيعة مكوناته وشكل الثورات (تونس ومصر) والاحتجاجات في جل البلدان العربية، مختلفا عن أنواع الثورات التي عرفتها المجتمعات فيما قبل. فإذا ما نظرنا إلى تركيبة الفاعلين ، فهي ليست فئة العمال أو الفلاحين كما كانت عليها الثورات العمالية أو الثورات الفلاحية... وإنما هي تشكيلة متنوعة من شباب من مختلف الفئات بمختلف الانتماءات السياسية والمهنية وبمطالب مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ، شباب حامل لقيم حديثة لكن بدون تأطير نظري أو سياسي داخل جهاز حزبي وبدون رِؤية واضحة عن البديل المجتمعي والسياسي. ما يجمع بين كل هذه الفئات الشبابية هو توافق ظرفي سرعان ما تم تجاوزه بحلول الآليات السياسية : الدستور والانتخابات وتشكيل حكومات... ويمكن أن نعتبر أن طبيعة الحراك العربي لا يعبر عن الحداثة بقدر ما يعبر عما يمكن أن نسميه بما بعد الحداثة، التي أفرزت حركات احتجاجية لا رأس ولا ريادة لها وبدون تنظيم مسبق وبدون فكر يؤطرها، تجمع فئات تحمل إيديولوجيات متناقضة. ومع ذلك فهذه الظاهرة جاءت حاملة لرسالة التغيير الداخلي والعميق للتدبير السياسي وما يترتب عنه من أثر اجتماعي واقتصادي .
{ هل ما يزال الأمل في تحقيق حداثة مجتمعية وفكرية اليوم؟
في خضم الصراع السياسي غالبا ما نستعمل بعض المفاهيم للتصنيف والتميز كمفهومي الحداثة والتقليد، والواقع أن هذه التعارضات ليست قطعية . فالعلاقة بين التقليد والحداثة هي علاقة معقدة. ففي كل حداثة هناك شيء من التقليد والعكس، بل وهناك ما هو حديث يلبس لباس التقليد وهناك ماهو تقليد يجدد لكي يصبح حديثا. ولذلك يكون السؤال الذي يجب طرحه هو أي مضمون نمنحه للحداثة ، وأيّ مجتمع يريد الناس أن يعيشوا فيه؟ بأية قيم؟ فلا يمكن أن يعيشوا إلا بما أضحى يميز عصرهم من قيم مشتركة وكونية. وهنا أيضا حسم الدستور المغربي ل2011 في كثير من هذه القيم. فقيم المساواة بين الرجل والمرأة، والمناصفة، وقيم الديمقراطية والمشاركة السياسية والمواطنة، وفصل السلط، وضمان الحقوق ومسؤولية القيام بالواجبات وضمان الحرية والعدالة الاجتماعية، ونزاهة القضاء، والمحاسبة والمسؤولية... هذه هي مواصفات ما يمكن أن نسميه ‹›المجتمع الحديث››. فكل هذه الأمور تتعلق بالمشترك الذي ليس حوله تفاوض. والباقي سيظل محط اختلافات وأحيانا صراعات، وهذا أمر طبيعي في كل مجتمع. وبالطبع هناك أمل لتحقيق أسس ذلك المجتمع الحديث بترجمة تلك القيم في المؤسسات والعلاقات والسلوك الفردي و الجماعي وفي الفكر؛ وهذا أمر يتطلب وقتا وثورة ثقافية تنفذ لعمق العقليات في المجتمع.
{ هذه الأكثرية تستعمل الهوية لإفراغها من مضمونها الملموس ، وتحويلها إلى مجهولية مصوبة ضد التصنيف الذي تستعمله الدولة.. تعبئة الهوية ضد الهوية. هل تتفقين مع هذا الحكم؟
تعدد الانتماءات والولاءات والهويات نجده في كل المجتمعات بأشكال مختلفة. غير أن الخطاب الهوّياتي نجده يطرح بحدة في المجتمعات العربية الإسلامية أكثر مما كان في المجتمعات الغربية التي بدأت هي الأخرى تطرحه عندما أصبحت تعرف تعددية ثقافية فوق أرضها. وإذا كانت الهوية هي تعريف للذات ,فهي لا تطرح أي مشكل ولكنها تطرح مشكلا وتؤدي إلى صراع هوياتي عندما تشهر الهوية في وجه الآخر الذي يحمل هوية أخرى لكي تنفيه.
{ هل يدخل المغرب ضمن هذه الخانة؟
ما يميز المغرب هو أنه استطاع أن يقر بكون الهوية المغربية متعددة الأبعاد، وابتعد عن زمن كانت تشهر فيه الهوية الأحادية في شكل العروبة وحدها. غير أن الهوية المتعددة الأبعاد تحتاج إلى أرض صلبة تقوم عليها وهي المواطنة وضمان الحقوق مع الواجبات. قد نختلف في التركيز على بعد هوياتي أكثر من آخر ولكن يجب أن نشترك في أننا كلنا مواطنون.
{ ما رأيك في الوضع الثقافي في بلادنا اليوم بصفة عامة؟
هناك مستويان لما هو ثقافي: المستوى الأول هو الذي يتعلق بإنتاج الفكر والإبداع بكل أشكاله. وهذا المستوى ما زال يحتاج إلى المزيد من الجهود لسنّ سياسية شاملة للنهوض به، الأمر الذي يحتاج إلى إمكانات مادية كبيرة لبناء المسارح والخزانات في كلّ مدينة وحيّ، ودعم الإنتاج الفكري والإبداعي وتثمين عمل المبدعين والمفكرين. فالثقافة هي الوجه الحضاري للبلد.
أما المستوى الثاني فيتعلق بالثقافة بمعناها الأنتروبولوجي, أيْ العقليات التي تحتاج إلى ثورة حقيقية في المجتمع لتغيير قيم الاتكالية واللامسؤولية والريع والمحسوبية والغشّ واستباحة النهب وعدم اعتبار المصلحة العامة... وهذا أمر يحتاج إلى إجراءات ملموسة مع إحداث تغيير كبير.
{ في هذا السياق ألا زال للجامعة المغربية دور في إفراز شرائح تتطور في اتجاه الخلق والإبداع والبحث الرصين؟
ليس لدينا اختيار آخر غير أن نؤمن بالجامعة وبخريجيها وأن نعمل على تطوّرها لكي تكون فضاء لإنتاج النخبة المتعلمة النافعة لنفسها وبلدها، وللبحث العلمي. ولكن علينا أن نجتهد في هذا الاتجاه وأن نعبئ فاعلين والمجتمع حولها. يجب أن نتذكر أن جل الأطر الكفؤة في البلد كونتها الجامعة المغربية. ستظل الجامعة العمومية قاطرة للتنمية في بلد ينمو ولا يمكن أن نعوضها باستقدام جامعات أجنبية كما يقع في الشرق الأوسط، بل يجب أن نجعل تلك الجامعة في احتكاك وفي تفاعل مع المنظومات الجامعية الأجنبية لنقل التجارب والخبرات ونفتحها على العالم لكي نضمن لها تجذرا في الواقع المغربي وفي نفس الوقت انفتاحا على العالم. فالجامعة بحكم هذا الانفتاح هي من إحدى الواجهات للبلد على الصعيد الدولي؛ وهي أيضا قناة لاحتكاك وحوار الحضارات و الثقافات. في نظري تنمية المجتمع مرتبطة بنظام جامعي جيد وذلك لعدة اعتبارات. فالجامعة العمومية تستقبل أغلب الطلاب ، حوالي 85 في المائة؛ فهي إذن لها دور أساسي في إنتاج الرأسمال البشري. كما أنها منبتا للأفكار عبر البحث العلمي، وفضاء للنقاش العمومي في مرحلة مهمة من تحول المجتمع. يجب أن نعلم أن بناء الجامعة الجيدة، التي راكمت التجارب وأصبحت منتجة للأفكار وللعلم واكتسبت صيتا عالميا، يتطلب سنوات، ويتطلب استثمارا ماديا ومعنويا لتحسين فضائها وصورتها وتعبئة الفاعلين فيها حول مشروع طموح وواضح للنهوض بها. لا ننسى أن الجامعات التي نعتبرها اليوم معيارا في العالم نجد وراءها قرونا من الزمن. ولذلك فجامعاتنا الفتية هي في طريق البناء نحو الجامعة المعيارية. لقد فتحت العولمة آفاقا جديدة بالنسبة للجامعات للتنافس وتوحيد معايير الجودة وتقييمها، ولكنها أيضا أفرزت تحديات من جراء تطور طرق تلقين المعارف وإنتاجها والثورة الرقمية واقتصاد المعرفة وفيض الانتاج العلمي. وبهذا أضحت المزاوجة بين تحقيق المردودية في التكوين والبحث العلمي من أجل التنمية الداخلية للمجتمع، وبين التنافس في محيط عالمي مع منظومات جامعية عالمية، من أكبر التحديات التي تواجه الجامعات المغربية اليوم. لتحقيق مشروع الجامعة الناجعة التي تخدم الطالب والمجتمع ، يجب الانكباب على الأهم: أن نحدد الأهداف الكبرى التي يمكن أن نحققها في العشر سنوات المقبلة والعمل على جودة التكوينات مع اتخاذ الجرأة اللازمة لحذف تكوينات تقادمت في طرق تلقينها ومضمونها، ودعم البحث العلمي بسياسة واضحة، وتعبئة وخلق إطار محفز للموارد البشرية واتخاذ إجراءات لتكوينها في تخصصات نحن في حاجة إليها، مع إحداث أجهزة مستقلة لتقويم الجودة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.