كانت المدن العتيقة للمغرب دائما تستهوي الأوربيين بشكل عام، ومحط استقطاب لهم كسياح قبل أن تصبح مبتغى لاستقرار بعضهم بها، قد يكون هذا الأمر حلما فقط لكنه يتحول الآن لحقيقة. الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسبانيا منذ سنوات، والتي أرخت بظلالها على المجتمع الإسباني، ساهمت في الرفع من نسبة البطالة التي اعتبرت أعلى نسبة البطالة في تاريخها، ودفعت بالكثير من مواطنيها للبحث عن حلول لموارد تعيد لهم بعض «رفاهية» العيش التي اعتادوها، لا سبيل الآن في إسبانيا لأي مدخول آخر والأزمة تزداد حدة شهرا بعد شهر، مما دفع بشبانها لتأسيس حركة 15 مارس الاحتجاجية. «الجار القريب خير من الأخ البعيد» مثل أدركه الكثير من الجيران الإسبان، الذين لم يكن يربطهم بالمغرب أي رابط أو تقارب، لكنه الآن كاد يصبح مستقرهم الأساسي، الأزمة وآفاق البحث عن عمل أحيانا، جعلت الهجرة تكون معاكسة حسبما أوضحت الكثير من التقارير المختصة في الآونة، بعضها صادر عن مراكز أوربية تجعل الإسبانيين والفرنسيين والبريطانيين على رأس قائمة الأوربيين «المهاجرين» نحو الجار الجنوبي الذي كانوا يضعون في وجه مواطنيه كل العراقيل والمثبطات الصعبة للحصول على التأشيرة. هذا وبخصوص الجار الإسباني فقد ذكرت تقارير الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء الإسباني أنه حوالي 2000 مواطن إسباني غادروا بلدهم متجهين نحو شمال المغرب في الشهور الستة الأخيرة للبحث عن فرص عمل ،ناهيك عن الأعداد الكبيرة التي غادرت سابقا منذ اندلاع الأزمة ،حيث شرعوا في تدشين مشاريع تجارية صغيرة لها علاقة بالسياحة والخدمات . المغرب وجهة مفضلة لهؤلاء كل حسب المنطقة التي يختارها، والإسبان بحكم الارتباط التاريخي بالمنطقة الشمالية ،وكذا سهولة التواصل اللغوي، فجلهم يفضل ويختار الهجرة لها بطرق مختلفة وآفاق مختلفة أيضا. تصفية حساباتهم المالية ببلدهم اصبحت أمرا معمولا به لدى الكثيرين، من أجل البحث عن طرق أخرى وخاصة منها ما أصبح يعرف ب»طريق الجنوب» التي يختارها الكثيرون، سواء كانوا مواطنين بسطاء أو مستثمرين من مستوى مرتفع، فبلادهم لم يعد بها ما يبشر بالخير من الناحية الاقتصادية، ومن ثم فهم يبحثون عما يضمن لهم العيش الكريم ولو خارج بلادهم في ظل الظروف الاقتصادية المتأزمة. لن تستغرب أن تجد عشرات الإسبان أسرا واحدة في الغالب، مقيمين بتطوان وشفشاون وغيرها، ففي الوقت الذي كان الكثيرون يعتقدون أن هناك تناقصا في عدد الإسبان المقيمين بالمنطقة، انقلبت الأمور وأصبحت تلك المدن تستقطب هاته الأيام المزيد منهم، ليس كسياح عابرين بل كمقيمين بشكل شبه نهائي هناك، حتى أن من منهم من اشترى منازل سواء داخل المدينة العتيقة أو خارجها، معتمدا على تصفية حسابات وتعويضات عمله ببلده الأصلي التي غالبا ما تكون مهمة وكافية لتلك الأسر لبداية حياة جديدة بالمغرب، بل إنهم يساهمون حتى في الدورة الاقتصادية من خلال شراء غالبيتهم لمنازل ورياضات من داخل المدينة العتيقة، ويدفعون السكان الأصليين لمغادرتها وشراء منازل عصرية لهم، مما يرفع أثمنة العقارات . الوافدون الجدد منهم متقاعدون يريدون الراحة وهدوء البال، فيفضلون الاستقرار بتطوان لقربها من بلدهم، وحتى يكون اجر تقاعدهم كافيا بالنسبة لهم للعيش بأمان وبرفاهية كافية، عكس ما يمكن أن يعيشوه ببلدهم بما تبقى لهم من التقاعد، ولعل ذلك ما يشرحه «خوصي» المتقاعد بمالقة والذي رحل رفقة زوجته للإقامة بتطوان، فاكترى بتقاعده الذي لم يكن ليكفيه ببلده، فيلا بشارع مولاي العباس بحوالي 6000 درهم، والبقية تكفيه ليعيش «رفاهيته»، خاصة وأن المدينة تشبه لحد كبير معمار مالقا وكذلك تواجد جالية إسبانية كبيرة بها. شريحة أخرى تركت عملها هناك بإسبانيا، خاصة منهم أصحاب المطاعم والمقاهي وغيرها، ففضلوا «الاستثمار» بتطوان والضواحي، حيث أصبح شراء مقاه أو مطاعم وحتى بعض ملحقات المنتجعات السياحية بالشاطئ التطواني ،حكرا على هؤلاء الإسبان الذين لم يعودوا يدرون أي دخل ببلادهم في زمن الأزمة، حيث أفلست جل تلك المشاريع ففضلوا الهجرة للمغرب واختيار المنطقة السياحية «تمودة باي» التي هي في مرحلة متميزة بفعل البنيات التحتية التي تعرفها والتشجيعات المقدمة للمستثمرين بها وكذلك بعدها الاستقطابي الكبير للسياح المغاربة كما الأجانب، مما يغري هؤلاء على ترك «كوسطا دي صول» والتوجه نحو الجنوب. بعض المتتبعين بالمنطقة يرون أن حركية الهجرة المعاكسة ستزداد خلال السنوات المقبلة، إن لم تكن خلال الشهور المقبلة، وفي ذلك يقول أحد الجمعويين المغاربة بمنطقة الأندلس، أن جل المحلات التجارية التي تغلق أبوابها حاليا بهاته المنطقة الإسبانية، يفضل أصحابها نقل نشاطاتهم للمغرب، وخاصة لمنطقة تطوان التي تشترك معهم في اللغة والثقافة. ومن ثم لا يستبعد ان تعرف المنطقة استقبالا متزايدا لهؤلاء مما يتطلب معه اتخاذ الدولة لإجراءات قادرة على الإبقاء على هؤلاء لفتح آفاق للاستثمار الأجنبي ولو بشكله البسيط، خاصة وأن هؤلاء لهم زبناء من خارج المغرب يمكن أن يكونوا وسيلة استقطاب إضافية. لكن ما يبقى مثيرا في هاته العملية ككل هي بعض الملاحظات التي يبديها البعض، من خلال هجرة بعض «فقراء» إسبانيا إلى المغرب، حيث سجلت بعض التقارير الإعلامية وجود متسولين إسبان ببعض المناطق الشمالية، وحتى بعض المشردين الذين ينامون في الشارع، بعد أن قست عليهم الظروف في بلادهم فاختاروا أن ينضافوا لمتسولينا ومشردينا المنتشرين في الشوارع شتاء وصيفا، وقد يعكس صيف هاته السنة أبعاد هذه الظاهرة خاصة في الشواطئ التي تعرف اكتضاظا كمرتيل والمضيق.