في لقاء نظم بأحد فنادق الرباط مساء يوم الخميس الماضي، تحدث الكاتب والناقد محمد برادة عن مسار تجربته في السياسة والثقافة وأجاب عن كثير من الأسئلة المتعلقة بهذه الثنائية التي يبدو أنها قفزت إلى الواجهة لكي تشغل الرأي العام الثقافي، والنابعة- كما بدا في تعبيرات الحضور الوازن الذي حج إلى لقاء كاتب متمرس بالفعل عن الكتابة- من حاجة الساحة المغربية والعربية على الخصوص إلى دور فاعل للمثقف من أجل أن يتحمل مسؤوليته في التغيير نحو التنوير بفكر يساهم في الخروج من الجمود الذي يبدو أنه سطا على الكثير من العقول التي توجهت إلى فضاءات مغلقة في تطرف بدأ بالفعل يؤدي إلى أنفاق مظلمة بامتياز، في الوقت الذي اعتقدنا أننا قطعنا أشواطا هامة في الانتقال إلى الحداثة والديمقراطية والنصوص المحسوبة على فضاء السياسة والذي اكتشفنا بالفعل أنه وضع مسافة بينه وبين الثقافة والمجتمع. وقدم لهذا اللقاء الناقد محمد الداهي الذي غاص في تجربة محمد برادة بكثير من العمق والتساؤل. ندرج مقتطفات منه للمتابعة : «ليس محمد برادة من طينة من يواكب سيرورة التغيير من أعلى، وإنما انخرط قلبا وقالبا في يمه ولجته مسهما في تحريك سواكن المجتمع، وزحزحة مفهوم الأدب، وتقليب التربة ، وارتياد الآفاق والأغوار المجهولة. وما يثير في تجربته المتعددة، ركوبُه قوارب المغامرة كما لو كان بطلا إشكاليا يختبر روحه بحثا عن « الكلية التلقائية للكينونة» التي نضبت مياهها، وحفرت في تضاريس العالم شروخا لا تلتئم ( على حد تعبير جورج لوكاش)... ومما أسعف محمد برادة على خوض مغامراته المتنوعة بنجاح وفاعلية رغم كثرة العراقيل والمثبطات توسله إلى العلم بافتراش المدر، وكثرة النظر... وهو ما جعله يحقق جزءا من مطامحه، ويداري ما تبقى منها أو لم يتحقق... قصصه ورواياته وخواطره «إن المغامرات التي خاضها محمد برادة ومازال يخوضها بعنفوان شبابه ( ما الشباب إلا كلمة على حد تعبير بيير بورديو) حتمت عليه أن يكون في جبهات متعددة سعيا إلى التخلي عن المحافظة والتكريس، والإمساك بتلابيب الضوء الهارب. ومن بين الجبهات التي كرس لها محمد برادة وقتا طويلا من حياته جبهة الرواية باعتبارها مدخلا للتعدد اللغوي والثقافي والسياسي، ودعامة أساسية لنقد الذاكرة المحنطة والسلطة المستبدة، ورسم آفاق محتملة للتغيير والعيش الكريم .. وقد كانت هذه الجبهة من أعتا الجبهات بحكم غلبة روح التقليد والمحافظة، والتشبث بالنماذج الجاهزة، ومعاداة ثقافة الاختلاف، والسعي إلى تكريس صوت أحادي باعتباره تكريسا للحقيقة المطلقة. وقد بذل محمد برادة جهدا كبيرا حتى يعطي لهذا الفن الوضع الاعتباري المستحق، ويجلي دوره في إنتاج معرفة تسعف على بلورة هوية الثقافة واستجلاء مجاهل المتخيل الرحب. فإليه يعود الفضل في إدخال مادة الرواية إلى المناهج الجامعية بعدما كان ينظر إليها كوسيلة للتسلية والترفيه، و مفسدة للغة والعقل والذوق. وقد أسهمت كتاباته النقدية وترجماته وإبداعاته في إضفاء الشرعية على الرواية، وتبيان قيمتها وجدواها في المجتمع. «لم يكتب محمد برادة النص الروائي إلا بعد أن خبر أغوار القصة القصيرة وأشكالها متفاعلا مع « النص العام» في مختلف تجلياته وملامحه، معيدا النظر في كثير من المفاهيم المتعلقة بالواقعية والالتزام، حريصا على تمييز الإبداع عن كثير من الخطابات السائدة. و هو، في كل ما كتب، يسعى إلى فهم ذاته ومساءلتها من زوايا متعددة.تتوارى « أناه المستترة» في أدغال النص وتضاريسه متنكرة في صور وأشكال مختلفة.وهي، وإن حرصت على التقاط تفاصيل اليومي والقيم المنهارة والأحلام المحبطة، تسعى إلى تشخيص « الحقيقة الداخلية» وإبراز تلويناتها وتجلياتها في «مرايا متقابلة». «غالبا ما يهتم النقاد بالقضايا الأساسية في الرواية. وهو ما يجعلهم يغضون الطرف عن بعض الجزئيات رغم حمولاتها الدلالية والرمزية. وفي هذا الصدد يمكن أن نستحضر علاقة الهادي ، في «لعبة النسيان(1987)»، بشخصية ف.ب ثم علاقة حماد بأم فتحية في «مثل صيف لن يتكرر». ما يهم، في العلاقة الأولى، هو أن شخصية ف.ب، بحكم فاعليتها وحركيتها ، تتجسد في أكثر من موقف ولغة ومشهد. وتجلي العلاقة الثانية عدم قدرة الفرد أحيانا على التعبير عن مشاعره حيال الآخرين في الوقت المناسب لبواعث متعددة.وهو ما حدث لحماد مع شخصية أم فتحية.أراد أن يعبر لها بعد سنيين من مغادرة القاهرة عن المحبة والتقدير اللذين يكنهما لها. لكنه لم يفلح في توثيق الصلة بها من جديد وهو ما ترك في نفسيته حسرة كبيرة. «يتضح، من خلال ملاحقة ظلال «الأنا المستترة» أن محمد برادة يتقن لعبتيْ التخفي والتعتيم، وهو ما يجعل القارئ متحيرا من أمره.. أهو أم ليس هو؟ ينتدب محمد برادة، في «لعبة النسيان»، شخصية الهادي لاستجماع عينات سير ذاتية تتقاطع مع الذاكرة الجماعية (استحضار صورة الأم « لالة الغالية»، ترتيب الأفكار والمشاعر المتناسلة، الارتداد إلى عالم الطفولة)، ومساءلة اللغة السياسية المتخشبة، والكشف عن هموم الذات وإحباطاتها المختلفة، والتسلح بأدوات التحليل النفسي لفهم مركبات الإنسان العربي وعقده قبل الصدع بالتغيير ( وهو ما يوحي به استفسار الهادي ثلة من المناضلين عن مصير أمه في اجتماع حزبي).