اسمه يفتح أبوابا عدة لسمعة مغربية رفيعة في محافل دولية وازنة، متخصصة في كل ما يرتبط بالإعلام والصحافة وقوانينها التنظيمية، خاصة على مستوى أخلاقيات المهنة. لكنه قبل ذلك وبعده، ابن وفي للدارالبيضاء، ليس الأمكنة الشعبية منها لأحياء درب السلطان وساحة السراغنة ودرب سبانيول وبوشنتوف ودرب كريكوان وكراج علال والحبوس ودرب ليهودي، بقاعات السينما الشهيرة فيها ( «الملكية» و«شهرزاد» و«الزهراء»)، بشارعها الطويل الشهير، شارع السويس (الذي أصبح في ما بعد شارع الفداء)،، بل الدارالبيضاء الثقافة والسلوك ونخوة الموقف الذي لا يجامل. ذلك الموقف الذي يكبر فيه أبناء العمال والحرفيين، والناس التي تقاوم من أجل قطعة خبز نظيفة بعزة ونخوة وشرف. هذه الدارالبيضاء، التي كانت الحومة والدرب فيها، عائلة كبيرة للتربية العمومية على السلوك القويم، وعلى الجهر بالرأي مهما كلف من ثمن، والتي جربت فيها أجيال مغربية عدة معنى الحياة، صعودا وهبوطا، هي التي صنعت عين الرجل. ليس عين النظر فقط، بل عين الحياة. جمال الدين الناجي، إلى اليوم، وقد ولج إلى عوالم مسؤوليات دولية رفيعة، وعبر فوق بساطات حمر دولية عدة، قبل أن يستقبله ملك البلاد ويعينه مديرا عاما للإتصال السمعي البصري التابع ل «الهاكا»،، جمال، إلى اليوم لا يزال بذات الطفولة البكر التي صنعته في أحياء درب السلطان بالدارالبيضاء، بذات الحرارة في الحديث، بذات الإنطلاق الصادق في التعبير عن الموقف، بذات الإنحناءة، وضم الأصابع، لأجل لي عنق الإقناع عند من يتوجه إليه بالخطاب، وتكاد تحسه أنه يقتطع الكلمات من جسده كي يقدمها لمخاطبيه قربانا أنها كلمات صادقة نابعة من القلب. والجدية لها ثمن. والثمن كان مسارا متلألئا في المجال الذي انخرط فيه بعشق وأخلص له، والذي كان اختيار حياة: الصحافة. ولأنها قليلا ما تكون وفية كمهنة مع كل معتنقيها، خاصة في بلد مثل المغرب، لأنها مهنة جحود، فإن حظه أنها كانت معه وفية وقابلته بذات الوفاء، لكن في سماوات أخرى بعيدة، حيث ثقافة الإعتراف سلوك حياة. كان ذلك في كندا وفي لندن وباريس أكثر من الرباط. وكانت قمة ذلك، قبل مسؤوليته السامية الجديدة، تعيينه أستاذ كرسي لليونيسكو في مجال الإعلام بإفريقيا. وحين نقول إفريقيا، فالرجل من أرسخ الخبراء في العالم حول المشهد الإعلامي الإفريقي، ليس فقط في شقه الفرانكوفوني (وهنا قوة ذكاء الرجل) بل في شقه الأنغلوساكسوني أساسا. مثلما أنه من أهم الباحثين المتخصصين اليوم في مجال «أخلاقيات المهنة» ودفاتر التحملات والنصوص القانونية المقارنة المؤطرة للممارسة الإعلامية عبر العالم. فمع جمال الدين الناجي، تجد واقع سنغافورة وكوريا الجنوبية، متجاورا معلومات وتقنيات ونصوصا مؤطرة، مع واقع غانا وجنوب إفريقيا وكينيا. ومعه تكتشف، بل تتعلم، كيف أن العديد من شعوب قارتنا المعطاء المظلومة، قد قطعت أشواطا هائلة في دمقرطة مشهدها الإعلامي بما يتوافق ودفتر تحملات الإعلام المهني الرصين الحر والشفاف في العالم. وأننا مغربيا نكاد نكون في آخر الصف مقارنة مع المنجز المتحقق في تلك الجغرافيات الإفريقية، خاصة الأنغلوساكسونية. وليس اعتباطا أن اختارته الفرق البرلمانية المغربية منذ أكثر من سنتين لقيادة الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، والذي أعطى اليوم كتابا أبيض، هو خارطة طريق متكاملة، غنية في يد أي صاحب قرار سياسي، يمتلك شجاعة ترجمة روح ذلك الكتاب في المشهد المغربي العام لإنتاج القيم، سياسيا وإعلاميا. وقوته أنه كتاب تأسيسي بامتياز. جمال الدين الناجي، الذي ولد في نونبر 1948، بدرب سبانيول بدرب السلطان، غير بعيد عن القصر الملكي، بالزنقة 17، الدار 21، بمحاداة شارع بني مغيل، غير بعيد عن سينما «الزهراء» العتيقة.. والذي كبر بعد ذلك بالزنقة الشهيرة لدرب بوشنتوف (الزنقة 26)، الشهيرة بما أعطته من فنانين وكتاب ومسرحيين، من طينة ثريا جبران والفنان الراحل محمد الحياني.. والذي درس في مدرسة بوشنتوف (السكويلة)، التي كان يديرها المربي الذائع الصيت في كل الدارالبيضاء حينها الأستاذ زروق.. والذي كان فضاء شيطنة الصغر لديه هو «سوق جميعة» الذي لا يزال قائما إلى اليوم بذات الرواج وبذات السلوك في التربية العمومية التواصلية.. والذي أخيرا كان جارا للبيت الذي اعتقل فيه الشهيد محمد الزرقطوني، وأيضا شابا مواضبا على مقهى «بغداد» (مقهى الخلص من محبي فريق الرجاء بدرب السلطان).. جمال الدين الناجي، بهذا التراكم في التجاور مع رمزيات عدة، كان شيئا طبيعيا أن يحلق سياسيا في اليسار، وأن يكون الإصطفاف لديه إلى جانب «أولاد الشعب»، بعد أن كان اصطفاف الآباء في ذات الحي والفضاءات إلى جانب «أولاد الوطن» زمن الإستعمار. من هنا الحرارة التي تسكن العين دوما عند جمال، بل إنها حرارة تكاد تكون مرضا محبوبا لديه، أن يكون دوما مصطفا في ضفاف مثل اليسار الخالدة. ومثل هؤلاء الرجال لا خوف منهم، لأنهم واضحون، وأساسا صادقون. ومنذ غادر الدارالبيضاء، لإتمام دراسته في الصحافة، بالمعهد العالي للصحافة بالرباط، وكان من جيل استثنائي بكل المقاييس في ذلك المعهد، لأن العديد من زملاء صفه أصبحوا وزراء وسفراء ومسؤولي دولة كبار، ومنهم من طواه الموت ومنهم من انسل باكرا إلى صمت الكأس والنسيان.. منذ ذلك السفر البكر لمغادرة مدينته العمالية، كانت مواقفه رسولا عنه، أن هذا الفتى لن يلين، وأنه يمتلك ما يكفي من الذكاء كي ينجح في تبليغ رسالته. وكذلك كان. فبعد تجربة في الصحافة المكتوبة بالفرنسية وتجربة في وكالة المغرب العربي للأنباء، هاجر في زمن الإنغلاق السياسي الحقوقي والمهني بالمغرب، إلى حيث هاجرت كفاءة مغربية أخرى وازنة من طينة الراحل الطاهر بلعربي العلوي: كندا. هناك درس الصحافة وعمل بها ورسخ علاقاته الدولية أكثر، حتى أصبح اليوم مرجعا لا يستغنى عنه لدى كل المنظمات الدولية ذات الصلة بالإعلام المغربي والعربي والإفريقي والمتوسطي، قبل أن تختاره اليونيسكو أستاذ كرسي عنها في مجال تدريس الشق الحقوقي والقانوني لمهنة نبيلة وخطيرة مثل مهنتنا الصحافة. وللحقيقة، فحين تصطف وجوه الإعلام المغربي، في امتداد صفحة التاريخ، نجد خطا بيانيا واضحا لقمم سامية تسامت هنا وهناك، في هذه الفترة أو تلك، منذ سعيد حجي وماقبله، إلى العربي الصقلي وعبد الجبار السحيمي وما بعدهما، وفي تلك الصفحة، سيظل راسخا منها، كمعنى خاص، عال، إسم جمال الدين الناجي. وفي مكان ما حين يتأمل المرء صورة استقباله من الملك إلى جانب امرأة نبيلة، خلوقة، عالية الرمزية في السلوك الحقوقي، مثل الأستاذة المريني، نكون أمام لحظة مغربية عالية القيمة للإنصاف. وأيضا، لأنه في مكان ما، مهنيا، قد أوتي القوس باريها.