تحية طيبة، وبعد يقول المثل: «لو تُرِكَ القَطا ليلاً لنام». وتأسيسا عليه قال الشاعر: فلولا المُزعجاتُ من الليالي لما تَرك القطا طِيبَ المَنام كنا نود ألا نشغل أنفسنا ونشغلكم بتقويم المنطق، وفصل الخطاب، وإشهار «نقط النظام». ولكن لا حيلة لنا في هذا الأمر، فالله جل جلاله يقول: «وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسنَ منها أو ردوها». وها نحن «نردها» بما يلزم: لفن نصُرَّها في أنفسنا، ولن يكونَ هناك جهرٌ بسوء مهما كانت المظلمة، فالأصل حسن النية. يسرني أن أخبر سيادتم أن ورزازات توجد داخل التراب المغربي، وأن نساءها مَعنيات بتنزيل الدستور تنزيلا ديموقراطيا يحقق المساواة، ويصون كرامة المرأة باعتبارها إنسانا كامل الأهلية. سبب نزول هذا الكلام هو ما تفوهتم به منذ شهور، ثم أعدتموه في فاتح ماي الحالي، وربما في مناسبات أخرى لم يتسنَّ لنا الاستماع إلى ما راج فيها?رى لم يتسنى لنا ألاستماع : لقد استغربتم، يا سيادة الرئيس، أن يكون من بين النساء المتظاهرات أمام البرلمان بالرباط (من أجل حقوق المرأة) نساءٌ من ورزازات. هذا كلامٌ مسجل يتجوَّل الآن في فضاء الله الواسع: قطعتم فيه بأنهنَّ كُنَّ مُسخرات!!: «.. ياالله طلعت أوجابوا لي واحد المظاهرة ديال العيالات ?دام البرلمان، فيها شي وحدين جابوهم من ورزازات، السلاليات جايين يحتجوا علاش ما عينا نساء فالوزارات! آش بينهم وبين ورزازات إيجيبوا لي العيالات حتى للرباط..». http://untm.ma/web/?q=node/345 وكانت ملامحكم وطريقة نطقكم أكثر تعبيرا على الاستغراب والاشمئزاز. افترضتُ، في المرة الأولى، أنها زلةُ لسان؛ مما يقع فيه بعض الخطباء الذين يجرفهم حماس تصفيق الأتباع، فيتركون العقل يلهثُ وراء اللسان، افترضتُ أنك ستجد في محيطك الحكومي، أو الحزبي، من ينبهُك إلى حساسية ما تَفوَّهتَ به، فتعتذر كما اعتذرتَ عن تشبيه تيفيناغ بالشنوية. فنظرا لأنك تجهل تيفيناغ كما تجهل الشنوية، على حد سواء، فإن «وجه الشبه» يكمن في الحالة النفسية التي تريد أن تنقلها من الشنوية إلى التيفيناغ، وهي بُعْد المسافة المكانية والنفسية، كأنك تقول: ما الذي يَعنيني أنا من الشِّنوية حتى أتجشم عناء تعلُّمها؟! العمليةُ أشبهُ بالحُلم الذي يشتغل خارج الرقابة استجابة لأحوالنا السيكولوجية. لم تعتذرْ، لا لنا، ولا لذلك المواطن البسيط الذي اعتبرْته شَمكاراً فرد عليك بأنه مواطن عادي (وقد نشر احتجاجا يوم 05/05/2012 على هيسبريس)، بل عُدتَ إلى نفس الزلة في فاتح ماي، ولعلك كررتَها مرات عديدة لأنك رأيت فيها حُجة دامغة على شيء توهمته: التسخير. لعلك تريد أن تقول مع الناظم لمعاني «حتى»: ياعجبا، حتى كليبُ سبني! حتى الجيادُ ما لها من أرْسُنِ حتى نساءُ ورزازات جئنَ إلى الرباط! غيرُ معقول! كيف يكون الاحتجاج طبيعيا ومعقولاً وفيه نساءٌ من ورزازات؟! هل هذا ما تردد داخل نفسك؟ أم تُراك كنت تُنكِّت هنا أيضا و»كالعادة»؟ حتى التنكيت دال، بل هو أكثر دلالة على ما تخبئه النفوس. هذه مجرد مكاشفةٍ أخويةٍ بما أحسسنا به نحن أبناءَ الورزازيات، لا نطلب منك اعتذارا، فنحن لسنا في موقع وزيرة العدل البلجيكية الت حولتها إلى مترجمة، وصعَّرتَ خدَّكَ عنها خوفا من الرقيب الذي عاقبَ تقبيلَك للعجوز الأمريكية، وتوعدك بالعقاب إن عدت. قصارى ما نريده أن نفهم معك في اتجاه علمي بناء من أين جاءك هذا الإحساس ببعد المسافة بين أمهاتنا وأخواتنا الورزازات وبين الاحتجاج: هل من المسافة الجغرافية بين ورزازاتوالرباط، أم من المسافة بين أهل ورزازات وبين حقوق الإنسان؟ أم منهما معا؟ الحقيقة أنهما أشبه بالمعنى وصورته، أو «المعنى ومعنى المعنى» حسب تعبير شيخ البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة, الجرجاني سيساعدك هنا في كشف سر هذا الخطاب الذي لا يليق بشخصية عمومية رفيعة يُفترض فيها التحفظ واللباقة واحترام مشاعر الآخرين. إن كلمات قليلة غير محسوبة قيلت في حق الأفارقة جرت على المغرب الويلات. صحيح هناك «مسافة زمنية» بين ورزازاتوالرباط ترتبتْ عنها مسافة نفسية، ولكن هذه مسؤولية من؟ أنت الآن رجل دولة، ولا بد أن تأخذ نصيبك منها بالتضامن، وتعمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه. على كل حال هذا ميراث، ولستَ أولَ من قال: «آش جاب ورزازات...؟» لقد حكيتُ في كتاب زمن الطلبة والعسكر ما وقع بيني وبين محافظ الخزانة الملكية بالرباط حين طلبت منه الإذن بتصوير كتاب: المسلك السهل في شرح توشيح بن سهل سنة 1974. كان جوابه: «آش جاب ورزازات للموشحات». لا شك أن هذه هي البنية النحوية التي دارت في ذهنك وعبَّرت عنها بطريقتك، البنية العميقة هي: آش جاب نساء ورزازات للتظاهر أمام البرلمان؟!، آش جاب نساء ورزازات للمطالبة بحقوق المرأة؟! والبنية السطحية الدالة هي التي نطقتَ بها أنت. كان لسان المحافظ، حفا الله عنه، يقول: الموشحات نتاجٌ حضاري، قمةُ حضارة العرب في الأندلس، له ورثةٌ في فاسوالرباط وتطوان، بل في وهران وعنابة.. يغنونه في الغرناطي والأندلسي، والملحون عامة.. فمن أي وجه يصبح بدوي من ورزازات وريثا له؟ لا يمكن ذلك لا بالفرض ولا بالتعصيب؟! كيف يرث الثور معرض الخزف!؟ فما الذي يقوله لسان حالك؟ لا لوم عليك فنحن جميعا ضحايا سيكولوجية ذات جذور في التاريخ؛ سيكون من غير البناء الخوضُ فيها، ولكن لا مفر لمن في موقعك من أن يكون على بينة منها: فبعد أن كانت المنطقة معبرا للدول المغربية من الجنوب نحو الشمال صارت ممرا معاكسا نحو بلاد «السودان الغربي» لاجتلاب الذهب والعبيد، وباقي الحكاية عند المولى اسماعيل، وفي دور النخاسة في مراكشوفاس التي لم تغلق آخر واحدة منها إلا سنة 1920. ثم جاء التهميش مع الاسقلال فأصبحتْ ورزازات بعيدة في الجغرافيا وفي النفوس. بمفاهيم العصر الحديث (عصر الأنفاق والقناطر والطرق السيارة) توجد ورزازات في محيط مدينة مراكش (أقل من مائتي كيلومتر)، ومراكش كانت إلى عهد قريب عاصمة المغرب. وتوجد ورزازات أيضا في مركز دائرة المغرب: بين الكويرة وطنجة، وأكادير والحدود الشرقية للمغرب. ولكنها بمقاييس بداية القرن الماض، التي ما زالت سارية في طرقها، فهي توجد على بعد ست ساعات من مراكش، أي على مسافة ستمائة كيلومتر. (وإذا ما أخبرك أحد أنه يقطع هذه المسافة في أقل من ست ساعات فأحله على رجال الدرك ليحرروا له أكثر من خمسين تجاوزا معيبا وسرعة مفرطة، هذه تجربة حية). فإذا أضفنا إلى ذلك أربع ساعات من الرباط إلى مراكش صارت المسافة بين الرباطوورزازات عشر ساعات متواصلة. هل تكفي هذه الرواسب التاريخية، والمسافة الزمنية (التي سنوضحها)، وما ترتب عنهما من مسافة نفسية لكي يحس المسؤولون عن مستقبل المغرب الموحد أن T G V )طنجة البيضاء( أنفعُ للمغرب الحديث من فتح شماله على جنوبه! من حق السيد وزير النقل أن يتبنى مشروع التي جي في بعدَ أن تسلق قاطرته الأخيرة وهو يغادر المحطة بدون بطاقة (ولذلك تطارده الجمعيات المناوئة من هذا الباب فيخرج من باب آخر). وحتى لا تظن أنني لم أنتقد مشروع (تي جي في) إلا بعد أن ركبته (البي جي دي) أخبرك أني كتبتُ مقالا قبل أن يظهر نجمُ العدالة والتنمية في أفق قيادة الحكومة المغربية، بعنوان: مغرب (التي جي في) والمغرب المنسي، نشر في جريدة الحياة المغربية، وهو موجود على موقعي على الأنتيرنيت. والمغرب المنسي هو ورزازات باعتبارها باب الجنوب الشرقي للمغرب ومفتاحه: من جبل سيروا إلى حدود الجزائر. المغرب المنسي هو حوض درعة من الجبل إلى البحر، وحوض زيز من الأطلس إلى قلب قلب الصحراء. يصعب على فرد مثلي أن يُنكر فضيلة الاستقلال، لأنني بدونه لم أكن لأتحول من نسق تعليمي عتيق (بمعنى عقيم) إلى نسق جديد على علاته يفتح الطريق نحو مصير آخر. ولكن هل هذا هو رأيُ الطريق الفاصل (وقد يقول غيري الواصل) بين مراكشوورزازات؟ من حسن الحظ أن الطريق لا يتكلم بلغتنا وإلا كان أسمعنا ما يخجلنا. خذْ هذه المعلومة واحكم بنفسك: إلى حدود سنة 1924 كان الطريق بين مراكشوورزازات ما يزال ملكا للحمير والبغال، والخيل خلال الحركات، مع مَن يرافقها من بني البشر. (ولا تنس أيضا أنه إلى حدود سنة 1914 كانت دفاتر نظارة الأحباس تسجل العبيد الذين يباعون رسميا في دار النخاسة بمراكش). وفي تلك السنة اقتضت سياسة تطويع الجنوب، وقهر مقاومته، شقَّ طريق للآليات نحو الجنوب. كانت العملية شاقة وعسيرة بوسائل ذلك الزمن، ولكنها مضت إلى نهايتها. طريق شقه الجنود الفرنسيون. وفي إحدى واجهتي الأطلس غارٌ يُذْكرُ أنه بداية العمل لشق نَفَقْ تحت جبال الأطلس؛ يُقلصُ المسافة والزمان والعناء والأخطار. وهنا جاء الاستقلال فانشغل المخزن في الجنوب بتصفية جيش التحرير الذي كان جزءٌ كبير منه متمركزا في المنطقة (أحيلك على الفصل الأول من كتاب: وثائق جيش التحرير، الذي أعده وقدمه المجاهدُ السي محمد بن سعيد أيت إيدر، وكان للعبد الضعيف فضلُ مراجعته والإشراف على طبعه). ثم ثارت قضية الصحراء المغربية الغربية فتحولت المنطقةُ الجنوبية الشرقية إلى جيبٍ معزول طبيعياً، ومنسي إنسانياً، فوُظِّف توظيفا ظالما مُشينا. هل أنا الذي سأُفهمُك الآن وأنت رجل دولة كبير لماذا تحول الجنوب الشرقي من المغرب إلى معتقل شنيع للخصوم السياسيين، ومنفىً عقابيا للمنحرفين من الموظفين. فأيُّ إقليم من المغرب حوى ما حواه الجنوب الشرقي من المعتقلات السرية غير القانونية، غير المعترف بها.. من أكدز إلى تمضاغت، إلى دار آيت الشعير، إلى قلعة مكونة، وصولا إلى تازمامرت. أنت تعرف كيف تحولتْ شهرةُ قلعة مكونة من الورود إلى الاعتقال، وكيف تحولت دار أيت الشعير في قلب واحة سكورة (وهي مدرستي الأولى) إلى معتقل للنسيان، وكيف تحول أكدز من مدينة ثمور الفقوس إلى معتقل سيء السمعة...الخ يئس الناس هناك من الدولة، وقد تعمق هذا الإحساس سنة 1988 حين سلط عليهم إدريس البصري زبانيته باسم المساهمة في تمويل بناء مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء. تخيل أن هذا الإقليم المفقَّر رُتِّب في المراتب الأولى من حيث المساهمة (أذكر أنها المرتبة الثانية؟)، باع الناس فراشهم وناموا على التراب، طالبين السلامة... حين تغيرتِ الأحوالُ وزار الملك محمد السادس المنطقة، وصافح سكانها باليد المجردة، وأقام بينهم مدة من الزمن، ونزل إلى أرض قريتي «الحارة»، وخاطبهم مباشرة لم يصدقوا ما وقع، أحسوا بأنهم عادوا إلى مجال اهتمام الدولة. خاصة حين لبيت بعض المطالب الآنية على وجه السرعة. كبر الحلك فنسجوا الحكايات وخططوا الخطط.. وتوقعوا حصول المعجزات. وكان لكل فرد ودوار وقبيلة انتظاراتٌ ومتأخراتٌ يودُّون تحقيقها، ولكن مطلبَ المَطالب الذي بدونه ستضيع كل الجهود عبثا هو فتح المنطقة الجنوبية الشرقية على شمال المغرب نحو مراكش، كخطوة أولى ملحة. استثمار مضمون على المدى القريب والبعيد، مضمون بالثروات الطبيعية والسياحية والمعدنية والفلاحية..، فضلا عن حساسية المنطقة الواقعة على جوارٍ تعلمون طبيعتَه منذ أن وطئت قدم الأتراك أرض الجزائر، فأهلُ درعةَ (مثل أهل زيز) «مرابطون» على ثغر شديد الحساسية، وهم الذين ساروا في مقدمة المسيرة الخضراء لتحرير الصحراء بشجاعة وحسن نية: هل تعلم هذا؟ إذا كنت تعلمه فلا تستغرب أن تراهم في مقدمة المتظاهرين في الرباط من أجل مسيرة الديموقراطية؟ وإذا قررت مستقبلا أن تزور ورزازات فزر نفوسَ أهلها ولا تكتفي بالقشور. يفتخر الاتحاديون بكون زعيمهم الكبير، الشهيد المهدي بنبركة، قاد طريق الوحدة نحو الشمال انطلاقا من فاس عبر تاونات. فهل ترفع التحدي اليوم وتمد ذلك الطريق نحو الجنوب الشرقي انطلاقا من مراكش نحو ورزازات وصولا إلى الرشيدية والعيون. الطريق الذي نقصده هو الطريق السيار والسكك الحديدية؟ إن الأمر يتجاوز الحلول الترقيعية التي تُرتبُ الآن كما قدمتها القناة الثانية منذ أسبوعين: توسيع الطريق القائم، وفتح نفق ما في أفق غير محدد.. هذه الحلول التريقيعية مضيعة للمال، تجاوزها الزمن. ها نحن ننتظر لنرى إذا كانت ورزازات أقربَ إلينا فعلا من قندهار!