(مقاربة أولية) بدءاً يجدر التنويه بالإضافة النوعية لتسمية وزارة السكنى والتعمير وسياسة المدينة، فقد أبرمت صلحاً مع السياسة، وأعطت للسياسة دلالتها الحقة التي إنما تعني التدبير وحسن التدبير. وما المدينة إلا تجمّعٌ سكاني يهدف إلى إيفاء الحقوق وتوزيع الواجبات والخدمات في تساند وتكامل بناء، ومن ثم كانت المدينة بوتقة التمدن، وإطارا لصنع الحضارة واقتباسها، والسير بها في مدارج التنمية الشاملة والمستدامة. ومما تجدر ملاحظته أن التركيز على المدينة لا يُقصي القرية ولا يُهمشها، وإنما يمنحها دوما فرصتها لِتَتَنَظّمَ وتتهيكل لتؤول هي الأخرى إلى مركز حضري، فمدينة تدخل حلبة التنافس بين المدن، ولعل تسمية مكة بأم القرى خير مرجعية تؤسس لهذا التوجه وتدعمه. أما السياسة فقد آن أوان دفع تهمة التسييس وتجاوز المفهوم القدحي الذي كان يُتخذ ذريعة لمصادرة الرأي الآخر، وصارت المفارقة جلية واضحة بين سياسة إيجابية بناءة تراهن على تدبير شؤون المدينة بتشاور وحكامة، وتصطفي لذلك نخبتها الواعية الملتزمة، وبين امتطاء السياسة مركباً سهلا بهدف مصلحي يكشفه ويقوم شاهدا عليه واقعُ المدينة في صيرورتها ومآلها. ومن ثم يكون الرهان الأكبر لسياسة المدينة أن تخطط فتجيد التخطيط، وأن تستحضر المعايير المتواضع عليها حضاريا وعالميا لتحقق التوازنات في أبعادها المختلفة. والتخطيط عماد قيام المدينة ، ومرجع توسعها ونمائها، ويُفترض فيه أن يكون متقدما سابقا، فإذا تأخر وصار مسبوقا أصاب المدينة ما أصابها من تشوهاتٍ واختلالات. والتخطيط يسير من العام إلى الخاص: فمن مخطط وطني، إلى مخطط جهوي لإعداد التراب، فإلى تصميم مديري للتعمير، فتصاميم تهيئة يتعين عليها أن تحترم التراتبية، وتتجاوب معها، وترَجِّعَ صداها، وتلتزم بتوجهاتها، خاصة في بعدها المرحلي «phasage» ليأتي التعمير بعد ذلك محققا إسكانا يؤنس الإنسان، ويفجر طاقات العطاء والإبداع عنده ويرسخ القيم لديه، أما وجهة التعمير فحبذا الابتعاد بها عن الأراضي الخصبة، والمناطق الخضراء، لتتمركز في المواقع الصخرية والأراضي الجرداء غير المهددة بالكوارث الطبيعية. ولعل من أهم خصوصيات التخطيط الحرصَ على استحضار المعايير الدولية التي تعتمد التنمية المستدامة أساساً، وتتخذ توفير الإطار الأمثل للحياة غاية. من هذه المعايير تجميعُ المدينة في نسيج دائري يُسهِّلُ التنقل بين أرجائها، وييسر مَدَّها بالتجهيزات اللازمة لسلامة ورفاه العيش بها، ويَحُولُ دون التمديد الأفقي الذي غالبا ما يأتي على حساب الأراضي الفلاحية المجاورة لها. منها أيضا إعداد تخطيط يتبلور في استراتيجية تؤسس لمراحل نمو المدينة، وتسعى لتحقيق التمازج الاجتماعي بين سكانها، وتحترم قواعد التقابل، وضوابط التناسب بين ارتفاع البنايات، وكثافة السكان، وبين تهيئة الفضاء الطرقي، وتوفير المرافق البيئية، والتجهيزات العمومية، تؤطر ذلك مرونة في وثائق التعمير، وحزمٌ في الإلزام باحترام ضوابط البناء والتجهيز. وسياسة المدينة إطار عام ينسق بين سياسات قطاعية تقوم على وحدة المدينة وتتغيى جعلها مدينة مستدامة تعالج الاختلالات، وتحقق التوازنات، وتسعى باستمرار إلى تحسين إطار الحياة وإسعاد السكان. من هذه السياسات القطاعية نقف على ما يلي: القطاع العقاري: ينبغي أن يعرف سياسة عادلة تخضِعُ الملاكين للتهيئة بصورة تضامنية وجماعية، وتجعلهم يستفيدون منها كذلك وفق حصة كل منهم، ويتعين اعتماد تصاميم الملكيات، بدل الاجتزاء بالصورة الجوية التي لا تُبرز حدود هذه الملكيات. وعلى مستوى الأنظمة العقارية يتعين إصلاح أنظمة متوارثة ومتجاوزة (كأنظمة الكيش وأنظمة الجموع)، أما النظام العقاري للأحباس فيمكن إخضاعه لمشاريع عمرانية من قبيل الأنشطة الاقتصادية التي لا تستلزم التملك. وتظل الدولة مدعوة إلى التحكم في العقار، بالعمل على توفير الوعاء العقاري لأنشطة ترغب في تشجيعها، كما يفترض في الجماعة أن تكون سباقة عند التخطيط لتوسيع المدينة إلى اقتناء العقار اللازم لتوفير المرافق البيئية والتجهيزات العمومية. القطاع الجبائي: يتعين سن سياسة جبائية جديدة ترافق سياسة المدينة وتهدف إلى محاربة الركود الحضري، والحد من أطماع أولئك الذين يجعلون من العقار وسيلة للادخار. وذلك باتخاذ المتر المربع لا السومة الكرائية مرجعية لتحديد القيمة الضريبية، على أن يختلف الأمر من عقار السكن إلى عقار التجار أو الصناعة وكذا عقار السياحة، ومن الوسط الحضري إلى الوسط القروي، ومن العقار الجاهز إلى الأراضي المجهزة، والأخرى غير المجهزة. القطاع الهندسي: تركز الاهتمام عندنا لفترة على البعد الجمالي والجانب الاحتفالي، وكاد الاهتمام ينحصر في البناية في حد ذاتها، بيد أن التوجه الذي ينبغي أن يسود هو استحضار التلاؤم بين البناية والمجال، وتغليب الجانب الوظيفي في السكن، والوقائي من الفيضانات والزلازل، والعازل للحرارة والصوت مع الخارج، وبين المستويات والطوابق، وتشجيع البناء نصف الكامل تجاوزا للأوراش غير المنتهية بالتجزئات العقارية، مع إلزام أصحابها بإدماج التجهيزات البيئية والطرقية جنباً إلى جنب مع التجهيزات التحتية. وخير التعمير ما تكاملت في تتبعه ومراقبته اختصاصات : المهندس المعماري (كمعني بالنسق العمراني)، والمهندس الطبوغرافي (كمعني بالمساحات والمقاييس)، والمهندس المدني المختص بالخرسانة والطرق (كمختص بالمقادير ومعايير السلامة الطرقية)، ومهندس المساحات الخضراء. يشكلون فريق عمل متعاون ومنسجم لا يجور فيه أحد على آخر، ولا يطغى حضور على آخر، مما يستلزم تكوين مجموعات مهن التعمير (Groupement de m?tiers d?urbanisme) يخول لها إنجاز المشاريع الكبرى والإشراف على التجزئات العقارية والمجموعات السكنية. ويجب الحسم في ما وجب الحفاظ عليه وما يمكن الاستغناء عنه من رصيد عمراني، وذلك بعيدا عن كل إحساس بقدسية الماضي أو الاستهزاء والسخرية من الرصيد العمراني الحديث. مراجعة بعض الضوابط والمعايير: { عرض الطريق ينبغي أن يكون ضعف علو البنايات المصطفة على جنباته، حتى يضمن التهوية والإضاءة الكافيتين، ويحترم خصوصية وحميمية السكان، ويتلاءم مع حاجيات الوقوف ومتطلبات المرور. وفي هذا الإطار، يمكن دمج المساحات الخضراء ضمن عرض الطرق كشوارع الحسن الثاني بفاس، شارع مولاي يوسف بالبيضاء ومحمد الخامس بالرباط. * عرض الرصيف ينبغي ألا يقل عن ثلاثة أمتار داخل الاحياء، ولا عن خمسة أمتار بالشوارع والطرق الكبيرة. * وحتى تتسنى الملاءمة بين كثافة السكان وتلبية حاجاتهم المتعددة والمختلفة، ينبغي ألا تتجاوز هذه الكثافة 200 نسمة في الهكتار الواحد كحد أقصى. * المحطات الطرقية ومحطات الوقود والمناطق الصناعية وقاعات الأفراح والأوراش الصناعية والحرفية، ينبغي أن ننأى بها عن مركز المدينة وأحيائها السكنية حتى لا تكون مصدر تلويث وإزعاج، وإن اقتضى الأمر فرض ارتفاقات منع البناء حولها. * تراجع دور الدولة في مجال توفير البنية الفوقية، يقتضي إسناد الأمر إلى القطاع الخاص لتوفير التجهيزات العمومية جنبا إلى جنب مع التجهيزات التحتية، تسريعا وضمانا لتحقيق ترقبات وثائق التعمير، مما يمنحه قيمة مضافة لا تقدر بثمن. * عملية التجديد الحضري للخرب والبنايات المهجورة المتقادمة أو الآيلة للسقوط، ينبغي أن تدعمها نصوص تشريعية واضحة تمنح الجماعة أو مؤسسة أخرى تابعة للدولة صلاحية ترميمها أو هدمها وتجديدها، بعد استنفاد حث مالكها إن وجد على القيام بذلك في آجال محددة. * عمق المناطق المحيطة بالمدن ينبغي أن يتناسب مع قوتها الديمغرافية ووزنها الاقتصادي، كأن يكون المعيار كيلومترا عن كل مائة ألف نسمة، مما يجعل المنطقة المحيطة بالرباط وسلا عشرة كيلومترات مثلا وبالبيضاء ثلاثين كيلومترا، وهكذا دواليك. قطاع البيئة: لم يعد الحديث عن البيئة ترفا، ولكنه صار هاجسا يؤرق سكان العالم الذين هم بقدر ما يتزايدون ويتكاثفون، بقدر ما تتفاقم مشاكل محيطهم القريب والبعيد، ويستدعي الأمر استحضار معايير التوازن البيئي، واعتبارها ركنا ركينا في وضع الاستراتيجية، وإعداد التخطيط، والإلزام بها، والاحتكام لها. من ذلك رفع النسبة المخصصة للمساحات الخضراء بالتجزئات من 7% إلى 10% مع ضمها إلى التجهيزات الأساسية والتنصيص عليها في دفتر التحملات. وإذا كانت حواضر العالم تتنافس في ما بينها، وتنافس ذاتها لتنتزع لقب المدينة الخضراء، فإن المدينة المغربية اليوم لم يعد لها أي عذر في مهادنة الإسمنت الكاسح الخانق للأحياء والسكان، والتعمير الزاحف المبتلع للأراضي الخصبة، المغيب للمتنفسات، المستهين بالنفايات، المتغاضي عن الانبعاثات. والحال أن مُدُناً عالمية باتت تهدم العمارات لتحقق المتنفسات، فمتى نستوعب الخطر، ونتقي التمادي في الخطأ؟ قد يتعلل بعض مخططي المدينة وسياسييها بنسبة الأخطاء إلى من سبقوهم، غير أنْ لا عذر لهم في ألا يتجاوزوها، فتوجهات الألفية الثالثة، وزمن الربيع العربي إنما يستلزمان تصحيح الأخطاء، لا تثبيتها والإمعانَ في النسج على منوالها. قطاع الاقتصاد: التجارة والصناعة من أسباب وجود المدن، وتنشيطُهما من عوامل ازدهارها والإغراء باستقطاب رؤوس الأموال وجلب الاستثمار لها. وإذا كانت المدينة مدعوة إلى توفير فرص ازدهار الاقتصاد، بتيسير الولوج إلى المؤسسات التجارية، والتموقع المناسب للمنشآت الصناعية، فإن هذه المؤسسات تظل مدعوة إلى الأخذ بأسباب الاقتصاد الأخضر، واحترام معاييره، والالتزام بضوابطه. قطاع التعليم والثقافة والبحث العلمي: العناية به أكثر من واجبة، فهو ركيزة التنمية، وحجر الزاوية في النهوض بالمدينة، وتقويم مسارها، ومصدر إمدادها بالطاقات البشرية، ولنأخذ العبرة من بعض حواضر العالم التي لا تألو جهداً في الاهتمام بهذا القطاع، وكذا في الحرص على رعاية التميز، واستقطاب الكفاءات، والتحفيز على هجرة الأدمغة. وإذا كان التعليم الخصوصي يتجاوب مع طلب ذوي الدخل العالي والمتوسط في أحياء بعينها، ويتموقع فيها، فإن من غير المقبول تكثيفه في أحياء دون غيرها، أو في شوارع دون سواها، كما أن التعليم العمومي يظل مدعوا لرفع مستوى الاهتمام بأبناء الأسر محدودة الدخل، ورعاية التميزالذي قد يتكشف بين رواده. قطاع النقل: الذي عرف وتيرة متسارعة في تجاوز الأنماط المعتادة التي كانت تتلخص في تعبيد الطريق للسيارة، وشق الأنفاق للمترو، فصار التوجه بالمدينة المعاصرة نحو شوارع عريضة تعطي لكل من مستعمليها حظه منها، وتيسر التنقل الناعم بتحقيق فضاء طرقي يُعطي الأولوية للراجلين(أرصفة وساحات وممرات وولوجيات وتعداد مناطق تحديد السرعة في 30)، والدراجين (مسارات الدراجات الهوائية ومحطاتها)، ويحرر المسار لنقل حضري ينتزع الثقة، ويُغري بالتعامل معه لانتظامه وراحته وجماليته (وصار التنافس الآن بين الترامواي والحافلة ذات المستوى العالي في الخدمة في صيغها وأشكالها المختلفة)، إضافة إلى تَعْداد مراكن السيارات وتطويرها، وإلى التحكم في الفضاء الطرقي بمراكز المدن ، وتقليص مجال استعمال السيارة الشخصية، وتغليب استعمال السيارة المشتركة (Auto partage)، أو التنقل المشترك (Covoiturage) وسيارة الأجرة في بلادنا قد تكون مرشحة للقيام بهذا الدور إذا تم الارتقاء بها إلى ما يمكن تسميته بسيارة الأجرة ذات المستوى العالي في الخدمة(TH N S) نوعا وعددا، وهنداما وسلوكا، وقبل هذا وذاك تشريعا وتنظيما. وثمة محاولات في هذا الاتجاه ينبغي تحفيزها، والعمل على تعميمها. كما أن النقل العمومي الرابط بين المدن يستدعي المضي في تطويره، وحرق المراحل لتأهيله ، بالحرص على إسناد تأطيره إلى شركات تتحمل عبء تنظيمه وصيانته، عوضا عن أفراد هاجسهم عائدات الريع على حساب الصيانة وتأمين السلامة. قطاع الإدارة: الإدارة موثقة ومخططة وساهرة على تقديم الخدمات، ولدينا ما يكفي من شعارات الموضوعية والتشاور والحكامة، غير أنها تنتظر الكثير من التفعيل، والأخذ بأسباب المواكبة واستمرارية التكوين، حتى لا تخنق الرتابة فيها روح الإبداع والتطوير. فمتى يتجسد شعار «الإدارة في خدمة المواطن»؟ ومتى تسود النزاهة وتنتفي الرشوة في الإدارة؟ متى تقوم الحكامة على التشاور والشراكة؟ تلكم أمانٍ لا تأتي صدفة، وإنما تتحقق بالتصميم والإرادة. وقد لا تكون ثمة حاجة الى مؤسسة جديدة تعنى بهذا، فالوكالة الحضرية بحكم اختصاصاتها بكافة أطرها وتقنييها قادرة على النهوض بالتنسيق والتنشيط والتتبع والتركيب لملفات المشاريع. ويمكن أيضا ان تحتضن «قسما عقاريا» يعنى بالشؤون العقارية للمدينة خاصة منها تنمية الرصيد العقاري الجماعي، وإعادة تفعيل وتدبير الرصيد الحالي من حيث توجيه الاستثمار نحوه وجعله وسيلة لجلب هذا الاخير من جهة، ومن جهة أخرى وسيلة أخرى لتغطية التكاليف ذات الطابع العقاري كإعادة الإسكان، والتعويض العيني للمواطنين الخاضعين لنزع الملكية من أجل المنفعة العامة لفتح الطرق أو تشييد تجهيزات عمومية. ينبغي تشجيع المبادرة الخاصة ومنحها تسهيلات وإعفاءات محفزة حتى لا تتكرر تجربتنا. لم تجر عموما الجماعة إلا التبعات مع العمل على تنمية الرصيد العقاري من خلال الاستفادة من الهبات التي يمكن أن يحصل عليها أثناء منح رخص الاستثناء. المدينة والضاحية: ينبغي أن تجمع بينهما علاقات تكامل وتبادل خدمات وحسن جوار: الضاحية تزود بالغلال، وتستقبل المطارح ومحطات المعالجة، وتوفر المنابت، وتحتضن المقابر، والمدينة تظل مدعوة إلى تيسير أسباب استفادة الضاحية من التجهيزات العمومية الكبرى حتى يتحقق الجوار المفيد والمستفيد، وحتى تكون الضاحية مصدر أمان ومجال ترفيه، وبحكم متاخمتها للمدينة ينبغي أن تخضع لتخطيط وتشريع يتدرجان بها، ويؤهلانها للالتحاق بالوسط الحضري حتى لا تطغى عليها الفوضى، وتكون مجالا للتشوه العمراني، والنمو خارج إطار القانون. وصفوة القول أن المدينة بوتقة الحضارة، وصانعة التقدم، وقاطرة التنمية المستدامة، وأن سياستها وتدبير شؤونها يقتضي في ما يقتضيه، التحسب للحاجيات، والإجابة عن الانتظارات، وتحكيم المعايير عند التخطيط والتصميم، والتبصر واستحضار مبدأ المسؤولية المقرونة بالمحاسبة عند التجهيز والتسيير.