في الوقت الذي تهتز فيه الاقتصاديات العالمية بأزمات المديونية، و في الوقت الذي شرعت فيه الدول في وضع مخططات تقشفية بشكل استعجالي و مؤلم، يواصل المغرب إعداد ميزانيات تغوص بنا نحو القعر. من أين يأتي المال العام؟ وكيف يتم صرفه؟ هذا ما حاولت مجلة «تيل كيل» المغربية الإجابة عنه في عددها الأخير والذي نقوم بترجمته لقراء اللغة العربية. يبدو أن المغرب ينفق من المال أكثر مما يكسب، لذلك فهو يتحرك بالاقتراض و بذلك يرهن مستقبل الأجيال القادمة. هذه الديون التي يقترضها توجه إما لتسديد قروض سابقة ، وإما يتم ابتلاعها أساسا من طرف نظام مقاصة غير منصف أو في النفقات الكبيرة للدولة. وهكذا يتم جر البلاد بسرعة أكبر، إلى قاع الاستدانة الكبيرة فيما لا يتم القيام بأي شيء لإخراجها من هذا المسار الجهنمي. هذا إجمالا، هو ما نلاحظه بحزن من خلال معاينة قانون المالية لسنة 2012. وهي ميزانية طال انتظارها: فمنذ سحبه من البرلمان (وهو السحب الذي لم يكشف بعد عن جميع خباياه) غداة الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها، ظل قانون المالية هذا يشد أنفاس جميع الفاعلين الاقتصاديين. وفي هذا الصدد يعلق الاقتصادي نجيب أقصبي على الموضوع قائلا : " إنها المرة الأولى منذ الاستقلال التي يتم فيها التصويت على قانون للمالية في أبريل... فإذا كان الهدف هو إتاحة الفرصة للفريق الحكومي الجديد لوضع لمساته على هذا القانون، فقد كان من الأفضل تبني المشروع القديم ثم تصحيحه خلال السنة، عوض إعاقة مشاريع الاستثمار الجديدة مع ما لذلك من تأثيرات على النمو". وبالفعل، فبعد عدة شهور من الترقب، تمخض الجبل فوضع فأرا: إذ لم تلحظ "لمسة بنكيران" فيه تماما. فمشروع الميزانية استعار في معظمه التصورات نفسها، التي أصبحت متقادمة، للمشروع القديم. والشاهد على ذلك مراجعة معدل النمو من طرف بنك المغرب إلى أقل من 3 بالمائة في حين أن الحكومة قدمت معدل نمو ب 4,2 بالمائة. وحتى أكثر التوقعات تفاؤلا تظهر أن مشروع ميزانية 2012 محفوف بالمخاطر. البحث عن مائة مليار درهم: حسب توقعات قانون مالية 2012 فإن الفرق بين مداخيل ونفقات الدولة يصل إلى 32,5 مليار درهم، وهو ثقب عميق ينبغي سده بالاقتراض. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد: بل إن الموارد العمومية بنيت على اقتراض 44,5 مليار درهم من السوق الداخلي وعلى حوالي 20 مليار درهم من السوق الدولية. فإذا قمنا بعملية حسابية نكتشف أن حاجيات التمويل تصل إلى حوالي 100 مليار درهم وهو مبلغ ضخم جدا. جزء مهم من هذه المداخيل المتوقعة موجه لتسديد ديون الخزينة: 20 مليار درهم لأداء الفوائد و22,5 مليار درهم لمسح جزء من الرأسمال المقترض. وهذا معناه أن الديون سترتفع بحوالي 55 مليار من الدراهم. وهو تقريبا ما يعادل المبلغ الذي اقترضته الخزينة خلال السنتين الماضيتين. وبذلك ستقترب الديون العمومية مع نهاية السنة الجارية عتبة 500 مليار درهم. وإذا ما قارناه بالناتج الداخلي الخام المتوقع، فإن معدل مديونية المغرب سيقفز إلى 57 بالمائة، وهو المستوى الذي وصلته المديونية سنة 2004. وبلغة أخرى فإن البلاد متوجهة نحو إثقال كاهلها بالديون ، وهو ما من شأنه أن يهز من توازناتها الماكرو اقتصادية وأن يلطخ سمعتها لدى المقرضين. فإلى حدود اليوم ظل المغرب ، في نظر وكالات التنقيط، تلميذا نجيبا قادرا على الوفاء بديونه. بيد أنه مع التضخم المقبل للمديونية العمومية والتكاليف التي ترافقها، فإن المملكة قد تفقد موقعها الترتيبي "بي بي بي" الذي كان يفتح لها أبواب الرساميل والاستثمارات الدولية. شكرا بنك المغرب: لكن بالنسبة للعام الحالي فقد لا تجد المملكة نفسها تحت رحمة الأسواق المالية الأجنبية. إذ أن حاجيات التمويل في هذه السنة من الممكن تغطيتها من طرف السوق الداخلي وحده. ففي 2011 اقتنت الدولة أكثر من 100 مليار درهم (ببيعها سندات الخزينة) خصص ثلثاها لتسديد ديون سابقة. لكن بتكرار نفس الأمر هذه السنة فإن المغرب سيخلق توترا في السوق النقدي الذي يفتقر للسيولة. ولذلك فإنه منذ عدة شهور يقوم بنك المغرب بضخ السيولة (إلى حدود 50 مليار درهم) من أجل ملء صناديق المؤسسات البنكية، وهي أهم دائني الدولة. واليوم ، أكثر من أي وقت مضى، فإن على البنك المركزي أن يزيد من تدخلاته، خاصة وأنه خفض من معدل الفائدة التوجيهي إلى 3 بالمائة، وهو أدنى معدل له. هذا القرار ، الذي فاجأ الفاعلين في السوق، هو هدية، نوعا ما، للحكومة من أجل مساندتها في سعيها نحو جمع 100 مليار درهم. ويفسر لنا السيد منير ملوك مدير أنشطة سوق المعدلات بالمجموعة المالية للدار البيضاء (سي. إف .جي غروب) الأمر قائلا : "بتمولها البخس بفضل هذا المعدل المرجعي الجديد، فإن الأبناك يصبح بمقدورها الآن تقديم شروط تفضيلية للخزينة ، في الوقت الذي لم تتوقف أسعار النقد المطبقة على أذونات الخزينة في الشهور الأخيرة عن الارتفاع". ومع ذلك فإن تخفيض معدل الفائدة المرجعي من شأنه تشجيع الخلق النقدي وبالتالي يؤدي إلى التضخم (المتوقع 1,7 بالمائة). في حين أن هذا الأخير ينبغي أن يكون أقل من معدل الفائدة الحقيقي والذي هو بالنسبة لنا 1,3 بالمائة. وبعبارة أخرى، فإن هامش المناورة يضيق أكثر وليس من المستبعد على المدى المتوسط أن ترتفع معدلات الفائدة المطبقة على أذونات الخزينة. وهنا ينبغي البحث عن آلية لوقف ارتفاع نفقات خدمة المديونية. سلم اجتماعي بثمن غال: وعلاوة على وزن وتكلفة المديونية العامة، فإن الأنكى هو السبل التي يتم فيها إنفاق الموارد العمومية. فأحد أبواب النفقات الأكثر ارتفاعا في الميزانية العامة للمغرب هو المخصص لصندوق الموازنة، تلك النفقات الموجهة لدعم المحروقات والحبوب والسكر. ففي 2011 قدمت الدولة حوالي 49 مليار درهم للصندوق فيما لا تزال مدينة له ب 14 مليار درهم. هذا معناه أن هذا الصندوق كلف الدولة 63 مليار درهم في السنة الماضية. ومع ذلك، وفي سنة 2012 لا تخصص الميزانية إلا نصف هذا الغلاف المالي، وهي فرضية غير واقعية تماما، حسب جميع المراقبين. وفي هذا الصدد يقول نجيب أقصبي: "الحكومة نفسها،بين اللحظة التي وضعت فيها مشروع قانون المالية واليوم، لم تعد تتحدث عن 32,5 مليار درهم ولكن عن 60 مليار درهم".والسبب هو أن توقعات الحكومة بنيت على سقف 100 دولار كثمن لبرميل النفط في حين أنه يصل اليوم إلى 125 دولارا... أما محمد برادة، وزير المالية الأسبق ورئيس النادي الاقتصادي "لنكس"، فيقدر التكلفة الفعلية لصندوق الموازنة سنة 2012 بحوالي 81 مليار درهم آخذا المتأخرات بعين الاعتبار. أي ما يمثل عجزا قدره 36 مليار درهم في الميزانية... وإضافة لكونها مكلفة، فإن مصاريف الموازنة غير معقولة. فالهدف من إنشاء هذا الصندوق هو حفظ مستوى المعيشة في معدل معقول، إلا أن الملاحظ الآن هو أن هذا النظام يفيد الأثرياء أكثر من المعوزين، فمالك سيارة فيراري يؤدي ثمن البنزين المدعم مثله في ذلك مثل العامل الذي استدان كي يقتني دراجة نارية مصنوعة في الصين. وحول هذه النقطة يقول نجيب أقصبي : " إننا نؤدي ثمن إصلاح لم نقم به وتركناه يتجرجر لسنوات طويلة". وبالفعل فإن النقاش حول إصلاح هذا النظام واستبداله بآليات تساعد المعوزين مباشرة يعود إلى عدة سنوات. كان على وزير المالية الحالي، نزار بركة، إطلاق هذا الإصلاح حينما تولى وزارة الشؤون العامة. حينها لم يكن صندوق الموازنة يكلف سوى 17 مليار درهم أي أقل أربع مرات مما يلتهمه حاليا. أما اليوم فيبدو من المعقد التوجه نحو نظام أحقية الأسعار الذي من شأنه أن يهدم سلما اجتماعيا ذا أسس هشة. وفي هذا الصدد يقول أحد المراقبين بتهكم :" إن رفعا في أسعار الخبز أو السكر بإمكانه إنزال مظاهرات في الشارع أكثر مما قامت به جميع مسيرات 20 فبراير والعدل والإحسان مجتمعة" موظفون مكلفون جدا: مما يقلق أيضا هو المنعطف المعاكس الذي سارت عليه الدولة في سياسة التوظيف. فقبل بضع سنوات كانت التقليعة هي مخططات المغادرة الطوعية وطرد الموظفين الأشباح، إلا أن الذي حصل هو أن كتلة الأجور العمومية عادت إلى الارتفاع من جديد. فقد خصصت الدولة هذه السنة زيادة بقيمة 5 ملايير درهم في أجور موظفيها مما يجعلها تصل إلى حوالي 93 مليار درهم . فالفاتورة تفوق 100 مليار درهم إذا ما أضفنا إلى ذلك المساهمة في صندوق تقاعد الموظفين وفي منظمات الرعاية الاجتماعية. وإضافة لهذا، وحسب كافة الاحتمالات، فإن على المغرب أن يقدم أكثر هذه السنة. ففي سنة 2011 الماضية وفي الوقت الذي كان المشروع يتحدث عن 86 مليار درهم اضطر وزير المالية إلى تقديم 2,5 مليار درهم إضافي لسد ثغرات النزاعات الاجتماعية التي ازدادت بسبب الربيع العربي... ولا تكتفي الدولة بالزيادات في الأجور وتقديم الخدمات الاجتماعية، بل إنها تقوم بالتوظيف أكثر فأكثر. ففي هذه السنة أيضا تم خلق 26 ألف منصب شغل جديد، وليست هذه التوظيفات الجديدة هي ما ستجعل الخدمات العمومية أكثر فعالية (حين لا تكون في إضراب) أو من شأنها تثوير العلاقة بين المواطن والإدارة. فثلاثة أرباع هذه المناصب المالية موجهة لقطاعات ذات مشاكل (التعليم) أو مرتبطة بالأمن (الداخلية والدفاع الوطني). فمن الغريب أن نلاحظ أن الوزارات الأكثر التهاما للميزانية تنال 68 مليار درهم كأجور لموظفيها أي 73 بالمائة من كتلة الأجور العمومية. نقص الجبايات: الأمر الغريب الآخر هو المتعلق بتغطية النفقات العمومية من طرف الموارد الجبائية. يقول نجيب أقصبي خبيرنا الاقتصادي أن " الجبايات تؤمن 60 بالمائة فقط من الميزانية، وهو مستوى منخفض جدا" شاجبا منذ سنوات الظلم والخلل اللذين يميزان نظامنا الضريبي. وفي هذه السنة ، من المتوقع حصد حوالي170 مليار درهم كموارد جبائية (من غير الضريبة على القيمة المضافة التي تعاد إلى الجماعات المحلية). ومع ذلك فإن الجزء الأكبر من هذا المبلغ يأتي من الضرائب غير المباشرة (الضريبة على القيمة المضافة،الضريبة على الاستهلاك، رسوم التسجيل والتنبر...). أما الضرائب المباشرة (على الشركات أو على الدخل) التي تعكس نشاط النسيج الاقتصادي فلا تساهم من جهتها إلا بمبلغ 73 مليار درهم. فبالرغم من أن هذه الموارد الجبائية تزداد سنة بعد سنة، إلا أنها تظل غير متوازنة. يقول أقصبي "لنأخذ الضرائب على الشركات مثلا، فثلثا ال 165 ألف شركة الخاضعة لها تعلن نفسها في حالة عجز، أي أن بضع مئات فقط من الشركات هي التي تساهم ب 80 بالمائة من الموارد الجبائية". ومن بين هذه الشركات نجد كمشة من الشركات الكبرى العمومية وشبه العمومية.ففي 2010، قدمت شركات الدولة 9,6 مليار درهم كضريبة على الشركات. 80 بالمائة من هذا المبلغ جاء من أربعة كيانات كبرى هي : المكتب الشريف للفوسفاط واتصالات المغرب وصندوق الإيداع والتدبير وبنك المغرب. هذه المؤسسات الأربعة،تساهم في ميزانية الدولة،إضافة إلى الضريبة، ب 8 مليار درهم على شكل تحويلات وأرباح أسهم. وفي المجموع، فإن المحفظة العمومية تبقى غير ذات مردودية:فعليها أن تقدم 11,3 مليار درهم في حين أن تحويلات الميزانية لفائدة هذه الكيانات بلغ سنة 20011 إلى 16,3 مليار درهم. ولكي يكسبوا منه شيئا ما لم يجد الحاكمون أفضل من إعادة بيعه للخواص. وهذه السنة نفسها، فإن عمليات الخوصصة ستقدم للدولة 3,2 مليار درهم. -وهذه المداخيل قد ترتفع بالطبع إذا ما وجدت الدولة نفسها أمام خصاص مالي.ففي السنة الماضية، مثلا، تم بيع 20 بالمائة من رأسمال البنك الشعبي في حين أن مشروع قانون المالية لم يكن ينص على أي تفويت. فالمغرب يبدو مثل ربة بيت مضطرة إلى بيع حلي الأسرة كي تجد ما تنفق على أبنائها... التقشف غدا: تعتبر المؤسسات العمومية عادة رأس حربة النمو الاقتصادي، فهي تساهم بالنصيب الأكبر (122 مليار) في استثمارات الدولة، وهي الاستثمارات التي تساهم في تطور الناتج الداخلي الخام.ومنذ سنوات عديدة، كانت كل المجهودات موجهة لتضخيم هذه الاستثمارات العمومية. في سنة 2012، من المتوقع تخصيص غلاف مالي قدره 188 مليار درهم لهذا الغرض.غير أن هذا المبلغ يبقى نظريا، إذ يقول نجيب أقصبي "عموما، تحقق الدولة أقل من 70 بالمائة من الاستثمارات التي تعلن عنها، وهذه السنة، يمكن أن ينزل معدل الإنجاز عن هذا الرقم وذلك بسبب التأخير الذي حصل هذه السنة في المصادقة على مشروع قانون المالية، وبالتالي فإن عواقب ذلك على النمو ستكون واضحة" فقد تم تعليق نفقات الاستثمار تقريبا قبل المصادقة على هذا القانون كما أنه عادة مع اقتراب نهاية السنة المالية يتم التقليل من مثل هذه النفقات. ويعزز أحمد رضا الشامي، عضو لجنة المالية بمجلس النواب، هذا الأمر بقوله " أن هناك أيضا الانتخابات الجماعية المقررة في غضون السنة ومن شأنها وقف استثمارات الجماعات المحلية" إضافة لهذا فإن من المألوف قضم نفقات الاستثمار من أجل الخروج بعجز مقبول.وهذه السنة سيكون الثقب كبيرا, فالمغرب سيجد صعوبة في تمويل استثماراته وبالتالي نموه، وبذلك فهو يخاطر بأن يصطدم رأسا مع الجدار. ففي لحظة أو أخرى ينبغي الإمساك بالثور من قرنيه واتخاذ قرارات "لاشعبية" والتوصل إلى نوع من التوازن في الميزانية.لأنه كلما مر الوقت كلما أصبحت التكلفة الاقتصادية والاجتماعية أفدح. في الوقت الذي لا زال فيه هامش استدانة المغرب مقبولا نسبيا، فإن مخطط تقشف على المدى المتوسط لا زال ممكنا. وإلا سيأتي يوم تفرض فيه تدابير شديدة واستعجالية، وحينها تكون التكلفة الاجتماعية بدون حساب. مجلة «تيل كيل» العدد 516 الأسبوع الأول لشهر أبريل 2012 »