(2) أنت الآن شخص عادي جدا.ابتعد عن اللغة والتفكير إذا كانت اللغة تؤلمك.أنظُرْ بالعينِ البسيطة جدا، السطحية جدا، صفْ لنا العادي .شوف ! شْنُو َبانْ لَكْ فهَادْ لَبْلاَدْ؟ في المدينة الصغيرة، المزروعة وسط الصحراء، يكون الصَّباح خفيفا. للمستَيقِظِ أن يسأل نفسَهُ: ماذا يهمّك غير الصباح؟ تكون المقاهي فارغة ولا روّاد يشطرون السكون، الهواء جامد والنادل يتثاءب، لقد استيقظَ باكرا جدا دون جدوى، لكن المدينة تختلجُ وتبدأ الحركة...شارع المدينة الرئيسي قصير، والناس يعبُرون إلى العمل غير متعجّلين (موظّفي الأبناك القليلة وبعض الوكالات الصغيرة والمدرّسين وموظّفي العمالة والبلدية وأصحاب البزارات)، تملأُ المكان الأثوابَ البيضاء لتلميذات في عمر الزهور متّجهات نحو الإعدادية و«اللّيسِي». معلِّمو «الدّواويرِ» البعيدة على درّاجاتهم النارية ورؤوسهم مُلتفعةٌ بالأغطيةِ كمحاربين اتقاء البرد، يمضي الأسبوع فيمرّون يوم السبت غير عابئين باتجاهِ الفندق لاحتساء البيرة، «البَزاراتُ» تنتظِر السُّواحَ، يقف أمام أبوابها المرشدون الذين يتحدثون كل اللغات لا يعبؤون سوى باليومي. ناسٌ من «الدّواويرِِ» المجاورة بصناديق التمر والبهائم يَبتغون بيعها في السوق وشراء «التّْقَضْيَة» يومي الأحد والأربعاء.. ثم يحلُّ المساء. تُصبِحُ المقاهي عامرة،الأضواء الكابية تكابر، و أطفال الشوارع،على نذرتهم في هذه المدينة، يتحرّكون في كل مكان، تماما كما في كل المدن الصغرى، حميميون ولهم طابع خاص،لا يؤذون. يأكلون مما تبقى من الصّحون، ويلقّبون أنفسهم بألقاب مختلفة..عند الليل،تسعى كل الكائنات إلى إرواء العطش.في المكان الحميميّ الذي يتخلّص فيه الجميع من عنف الواقع وبداوة الحياة، حيث لا تغني أم كلثوم كما يرغب البعض، ويعوّضُها تلفاز غير واضحة صوره، يجتمعُ الشبان في بداية الشهر غير مفكّرين في الأجرة الهزيلة. يصبحُ رجال الشرطة هناك أكثر تسامحاً، فيَضحَكُ الجميع مع الجميع ويشكو الجميع ظُلم الإيقاع.. في هذا المكان الذي يُقفلهُ شاب أسمر عند الثامنة، تظلُّ الضحكاتُ في الداخل طرية طَازجة. في هذا المكان تَرتسمُ صورة مدينة أخرى. وفي الفنادق الرحبة، تنتعش اللّذة ويرقص السّواحُ وتسود الطمأنينة ولا يفكّر الإنسان في الريح التي تعوي في الخارج.. ثم تخرجُ الكائنات المتعبَة من السهر إلى الشارع فتتحرّك الريح ويتغيّر الجو.. قُلتُ لك إن المستعمل من نساء المدينة الصغيرة بعيد،لأن الطلب كثير.يُفضّلن الهاتف على المواعدة بتتبّع الخطى، فالحياة لا تتيسّر. أما السلطة فبعيدة متكبّرة، و»القايد» في كل قرية أمير، يأمر ويَنهي كما لو أنه «الكَلاوي» في الزمن الحديث،لا تشملُه رياح العهد الجديد،لا يقرأ الصحف ولا يهتم للمسار بل يسعى للاغتناء من أراضي الجموع قبل موعد انتقاله ليسافر إلى مدينة بعيدة ويترك الخراب في النفوس.. ثم يختلجُ الزمن ويأتي الصيف.أُنظر إلى الشارع الواسعِ أمامك علّك ترى شخصا أو شبحا، الصيف جاء ولا مجال، وأطفال المدرسة لم يعودوا يسيرون في الشارع ويملأ بياض ثيابهم رماد المشهد، الحرارة تقتل كل حي، الشارع طويل طويل طويل... ابتعدْ قليلا عن المدينة، وتوغّلْ في الدواوير؛ أطفال القرى يلعبون في كل مكان بالتراب،الأزقة متربة مغبرّة، يضحكون غير عارفين ما يدبَّرُ لهم.رؤساء الجماعات ينهبونَ البلد ويحصلون على القروض لأجل شراء السيارات الخاصة وإنجاز المشاريع الوهمية. يتخثّر الخواء في البلد، وتزداد الحلكة... حسنا حسنا، أنت تُريد أن تقولَ إنَّ الماء يشحُّ في «زاكورة» كلّ صيف وينقطعُ طوال الليل عن المنازل، أنت تريد أن تكتُب عن المشاريع التي تموت وقت ولادتها. مع ذلك، يُعرف الجنوبيون بسيماهم في التعنّت حبا في الحياة، لا يستسلمون وقد نَحثت الحياة وجودهم.. أنت تريد الحديث عن الشباب: الذين لم يوفّقوا في الدراسة، يهربون من البلد باتجاه الغرب ليعملوا في الفيلات حراسا أو بنائين، والذين درسوا عاشوا الأمرين في جامعات بعيدة ب»مراكش» أو «أكادير» وتقطّعت السبل بهم مرات، يقطعون الجبال وينحدرون بعيدا عن الجذور، لكنهم يصمدون..أنت تتكلم طبعا عن نساء الجنوب الشامخات اللواتي يعملن بشقاء في الليل والنهار، في الماء البارد والمطبخ وتربية الصغار، قرب البئر الذي جفّت مياهه، في الفدادين التي تزداد يَباسا حيث لَعبن وقت الطفولة فوق الخضرة لكنها لم تعد تُسعفهن. في الطفولة كانت الأبقار تخور في المنازل والحليب كثير والأطفال في صحة جيّدة بفعل المناعة والشمس، لكن الأشياء دوّت الآن وطبيب القرية متجهّم ورغم ذلك يعاودن زيارته في كل حين.. أنت تريد الكلام عن العجائز اللواتي يعبرن إلى الحياة الأخرى غير عابئات، فقد أصبح للأطفال حكاياتهم الخاصة، ماتت الحكاية فيهن ولا عزاء. المباني الإسمنتية أصبحت تَلْتَهِمُ القصبات والقصور ولا مُغيث..لكن من أين لك بالكلام وأنت تخاف أن تسقط في وصف العادي؟ نص من كتاب يحمل العنوان نفسه صدر للكاتب مؤخرا، وننشره باتفاق معه