انتقل - مؤخرا - إلى عفو الله الباحث والمؤرخ الأستاذ عبد الصمد العشاب، بعد مسيرة طويلة من العطاء ومن الوفاء ومن الإخلاص للوجه الحضاري المشرق لمدينة طنجة. وبهذه المناسبة الأليمة، نقترح إعادة نشر نص التقديم الذي كنا قد أنجزناه حول مضامين كتاب " من أعلام طنجة في العلم والأدب والسياسة " الصادر سنة 2009. ففي ذلك استحضار لعظمة فعل العطاء ولسمو روح صاحبها. تابع البحاثة المنقب الرائد عبد الصمد العشاب سلسلة أعماله التنقيبية بإصدار عمل تصنيفي هام، احتفى فيه برواد مدينة طنجة في مجالات الفكر والإبداع الحضاريين. وقد صدر هذا الكتاب تحت عنوان " من أعلام طنجة في العلم والأدب والسياسة "، وذلك سنة 2009 في ما مجموعه 472 صفحة من الحجم الكبير، سعى المؤلف فيها إلى تقديم نتائج آخر اجتهاداته في مجال الولع بفضاءات معشوقته " طنجة " وبرموزها التاريخية التي صنعت بهاءها الحضاري على امتداد القرون الطويلة الماضية. والحقيقة إن الباحث المدقق عبد الصمد العشاب قد استطاع إنجاز عمل غير مسبوق، ساهم في تجميع شتات سير الأعلام الذين طبعوا بعطائهم الثقافي والفكري والإبداعي الصورة الحضارية لمدينة طنجة، باعتبارها قلعة شامخة لنبوغ معرفي أصيل وممتد في الزمن. وبهذا العمل، أمكن للباحث عبد الصمد العشاب وضع أسس عمل راشد في ميدان الاشتغال على تلاوين التراث الرمزي لأعلام المدينة، بعيدا عن الرؤى الانطباعية والعجائبية التي طبعت سيل الكتابات الأوربية التي انشغلت بإبراز " سحر " طنجة ومكانتها الإنسانية الحالمة، وهي المكانة التي جعلتها تتحول إلى قطعة سريالية من عوالم " ألف ليلة وليلة " الافتراضية، ارتقت بها إلى مستويات هلامية ظلت تحمل الكثير من العناصر التي طمست معالم هويتها العربية الإسلامية الأصيلة. وعمل الأستاذ العشاب مبادرة رائدة لتصحيح مكونات هذه الصورة، عبر إعادة استنطاق سير أعلامها الذين صنعوا ريادتها الفكرية والثقافية والسياسية داخل وسطها الوطني الضيق، وعلى مستوى امتداداتها المتوسطية والدولية الواسعة. ولإبراز منطلقات هذا الأفق العام في التوثيق وفي التجميع وفي التنقيب، يقول الأستاذ العشاب في مقدمة كتابه : " ... أود أن أشير إلى الحافز الذي جعلني أهتم بموضوع رجالات طنجة في العلم والأدب والسياسة. فقد رأيت أن طنجة المغربية الإسلامية ليس لها نصيب في مجال التاريخ المعاصر ... وكان للاحتلال البرتغالي ثم الإنجليزي دور كبير في فصل علاقتها مع التاريخ الإسلامي حين كانت معبرا للجيوش والعلماء والأدباء ينتقلون من فرضة الأندلس إليها أو منها إلى الأندلس وشهدت حركة علمية وأدبية قوية في تلك العهود ولكن الاحتلال الأجنبي طمس أو كاد على تلك الحقب الزاهرة من تاريخها، حتى كان الفتح الإسماعيلي لها عام 1684 م. ثم بعد سنة 1924 فرض على طنجة نظام دولي طغت فيه الجاليات الأجنبية، وكتب الكثير عن طنجة ولكن من وجهة نظر الغربيين فقط، أما جانبها المغربي الإسلامي فقد ظل مركونا في الظل ... فهذا الكتاب هو مشروع تأثيت ثقافي وعلمي وسياسي لطنجة القديمة والمعاصرة يتبلور في هذه الشخصيات التي كان لها فعل متميز في مجال من المجالات. وجاء تقديم هذه الشخصيات حسب أقدم شخصية إلى أحدث وفاة قبل سنين قليلة ..." ( ص ص. 3 ? 4 ). ولتغطية مختلف جوانب نبشه، قسم عبد الصمد العشاب عمله بين مجموعة من الأقسام المتكاملة، حيث اهتم في أولاها بالتعريف بسير العلماء والمفكرين والمبدعين الطنجيين، من أمثال أبو الحسن بن زنباع، الحسن الغسال، العربي الوزاني، عبد الحفيظ كنون، أحمد بن الصديق، عبد القادر الشاط، عبد الله كنون، محمد بن تاويت، مصطفى الخمال، عبد الرحمان اليوسفي، محمد العربي التمسماني، أبو بكر اللمتوني، أحمد بوكماخ، أحمد بولعيش، إلى آخر اللائحة الطويلة من أعلام المدينة الخالدين. وفي القسم الثاني من الكتاب، انتقل المؤلف للتعريف بسلسلة من الأعلام الذين انتهى بهم المطاف بالاستقرار بمدينة طنجة أو مروا بها في زيارات عابرة، من أمثال المعتمد بن عباد، أحمد الرهوني، محمد العياشي سكيرج، والتر هاريس، محمد المكي الناصري، علال الفاسي، محمد تقي الدين الهلالي، إدريس الجاي، العياشي المريني، محمد المورير، دولاكروا، هنري ماتيس، شكيب أرسلان، يوسف وهبي، طه حسين، عبد الخالق الطريس، ... كما ألحق بهذه اللائحة سلسلة تعاريف بقضاة المدينة وحكامها وموظفيها السامين، من أمثال طارق بن زياد، يوليان الغماري، عقبة بن نافع، ميسرة المدغري، سكوت البرغواطي، عبد الرحمان أشعاش، محمد الخطيب، أحمد أبعير، أحمد الريسوني، محمد الكباص، ... وقد ختم المؤلف عمله بإدراج مجموعة من الملاحق، قدم فيها نبذا من تاريخ أضرحة التصوف بطنجة وزواياها، وتفاصيل حول الزوايا التي تنسب لبعض الصلحاء المدفونين بجهات أخرى من المغرب مثل الزاوية العيساوية والزاوية الحمدوشية، ثم لائحة ضمت ما استطاع المؤلف جمعه من معطيات حول قضايا مدينة طنجة خلال العهود الماضية حتى عام 1953، ثم أسماء بعض عدول طنجة الذين أمكن تجميع المعطيات الخاصة بهم على هامش إنجاز الموضوع الرئيسي لأبحاث الكتاب. وفي آخر مواد الكتاب، أدرج المؤلف معطيات تفصيلية غزيرة حول المؤسسات العلمية والثقافية والتعليمية الأوربية والعتيقة بمدينة طنجة، مثل خزانة الجامع الأعظم، والمكتبة الإسبانية، والمكتبة الأمريكية، والمدرسة الإسلامية الحرة، والمدرسة العربية الفرنسية بطنجة، وليسي رونيو، ومدارس التعليم الديني اليهودي بطنجة، ... ثم حول الجمعيات الأدبية والرياضية والفنية والأعمال المسرحية وأهم الشخصيات التي تعاطت لفن المسرح خلال عقود النصف الأول من القرن الماضي بشكل خاص. وفي كل هذه المواد المتنوعة والغزيرة، ظل المؤلف حريصا على تعزيز متنه بالعديد من الاستشهادات التوثيقية والاستدلالات الإبداعية، وخاصة الشعرية منها، معززا ذلك بنشر لائحة تفصيلية بمراجع بحثه وبمصادره الأساسية، وكذلك بباقة توثيقية من الصور الفوتوغرافية التي تؤرخ للعديد من الشخصيات المذكورة في الكتاب ولبعض الوقائع التي عاشتها مدينة طنجة خلال العقود الماضية للقرن 20. وبذلك، استطاع عبد الصمد العشاب وضع أسس عمل مؤسس، لا شك وأنه قد تطلب منه الكثير من الجهد ومن الأناة ومن الصبر، تجميعا للمواد، وتدقيقا في مضامينها، وترتيبا لمعطياتها المرتبطة بصنعة الكتابة لتراجم الأعلام، حسب ما هو متعارف عليه لدى المشتغلين بهذا المجال. إنها ? باختصار ? مبادرة تفتح المجال واسعا أمام إمكانيات هائلة لتطوير البحث المونوغرافي المجهري وتزكي جهود الانفتاح على الكتابات التراجمية المناقبية قصد توسيع آفاقها واستثمار نتائجها.