يسود الخوف والتوجس في الشارع، ينصحك عامل الفندق بالاحتياط والتزام الحيطة والحذر، ثم يقترح دعوة طاكسي لكي لا تضطر للترجل والمشي طويلا في الشارع. الطقس في القاهرة لا يثبت على حال، تمر الفصول الأربعة في اليوم الواحد، مثلما يتغير حال الشارع مع توالي الساعات واللحظات. فباستثناء الاكتظاظ والزحام، الحياة تبدو طبيعية في كل مناطق هذه المدينة العملاقة، لكن، سرعان ما يتغير الحال، ليعلو صراخ الاحتجاج وعبارات الوعيد والتهديد.. تتوقف السيارة، أفواج بشرية عديدة تمر في مسيرة تطالب فيها برحيل العسكر عن السلطة.. كل الأمكنة وكل الساحات والفضاءات هادئة، وكل الأمكنة وكل الساحات والفضاءات مشحونة ومتوترة ومنتفضة في نفس الوقت.. سألت مرافقي أحمد نزيه باستغراب، عن رجال الشرطة الغائبين عن الشوارع والممرات، إلا من قليل يرابض في ركن يشاهد ويتفرج! إنهم حاضرون، لكنهم لا يتدخلون إلا في الحالات القصوى.. ربما هناك تعليمات، فالحرية التي جاءت بها الثورة غيرت كل المفاهيم، ولا مجال الآن للتنازع مع هذا أو ذاك.. الخطير عندنا في مصر، هو أن كل واحد يرى في نفسه الأصح، وموقفه هو السديد، ويرفض الجميع التنازل عند الرأي الآخر، ولا حتى مناقشته والاستماع إليه.. في شارع النصر، توجد المنصة. إنها المكان الذي جلس فيه أنور السادات الرئيس السابق في انتظار لحظة اغتياله.. أمامها مباشرة، ينتفض تمثال يغطي قبر الجندي المجهول.. وقفت وسط هذا الشارع التاريخي الذي شهد حتما ذلك المنعطف الحاسم في حياة المصريين.. هنا ترجل أفراد كتيبة الإعدام، وكأنهم رسل قادمون من محيط قبر الجندي المجهول.. ليتوجهوا مباشرة نحو المنصة، ويطلقوا رصاصات القتل في صدر أنور السادات.. وأنا أتأمل في المكان، سمعت من يطلق آهات عميقة تحمل معها عبارات الحسرة والأسى.. لم يكن شيخا مسنا، بالرغم من شيب ملأ شعره، التفتت نحوه وهمست وكأني أخاطب نفسي، هنا مات أنور السادات؟؟ وكأني به وقد انتفض متحمسا، راغبا في فتح النقاش والحديث: أيوة أستاذ، هنا اغتالوا الدم المصري النظيف.. عنا سقط رجل جدع.. هنا امتدت يد الغدر والخيانة لتضع نقطة نهاية لحكاية جميلة بدأها عبد الناصر، وحملها كأمانة السادات.. من كان يجرؤ في عهد السادات على زعزعة حياتنا واستقرارنا؟ من كان يجرؤ على النيل من سمعتنا والمس بكرامتنا، من كان يتخيل أن مصر، أم الدنيا، ستتحول لروح بدون رأس؟ آه لو عاد السادات.. التفتت لصديقي أحمد، متسائلا ومستغربا.. هل يحمل المصريون في أذهانهم صورة السادات وهم يتطلعون لبناء مصر جديدة، مصر ما بعد الثورة؟ بكل تأكيد أستاذ، معظم الناس يحلمون هنا في مصر، برجل مثل السادات، شهم وشجاع، وقوي الشخصية.. رجل بمثل هذه الصفات، سينهي، بكل تأكيد، العبث الذي نعيشه اليوم.. بعيدا عن شارع النصر وعن المنصة وعن قبر الجندي المجهول، ومرورا بكوبري 6 أكتوبر، وذكريات زمن الحرب والانتصارات، واسترجاع سيناء وتحرير الجنوب، تنتفض مظاهر التمدن والحضارة الأوربية الممزوجة بالطابع المصري العريق.. عمارات شاهقة، وبنايات جميلة على كورنيش النيل، ومحلات ومؤسسات تجارية عملاقة تزين الفضاء.. عوامات على النيل، قناطر وكوبريهات تتسابق وتتداخل لتوزع مسار السيارات والحافلات.. وعلى بعد أمتار معدودة من مبنى التلفزيون المصري، ومن مبنى مقر الحزب الوطني الذي أضحى مثل الأطلال، بناية مهجورة لا تحمل سوى ندبات وحروق تؤرخ لمرور الثورة من هنا.. وفي ركن في شارع جميل مزين بالأشجار، تقف فيلا فسيحة جدا، شامخة تحتل مساحة كبيرة، وأمام إحدى بواباتها يجلس مجموعة من رجال الأمن.. إنها مقر سكن أنور السادات.. جزء كبير من الفيلا يحمل علم روسيا.. والحكاية أن حرم السادات جيهان السادات، قامت منذ فترة ببيع جزء كبير من الفيلا لوزارة خارجية روسيا التي استغلته كمقر لسفارتها في مصر. ابتسم مرافقي معلقا: عاش السادات صديقا للسوفيات والروس.. صان العهد، وظل وفيا لهم حتى في مماته، دعموه حيا، وآنسوه ميتا..