قال الشاعر حسن نجمي، الذي انتقل أول أمس زوالا إلى سطات، رفقة نجيب خداري، رئيس بيت الشعر بالمغرب، والشاعر مراد القادري، إن الراحل كان أحد الوجوه الأدبية البارزة في منطقة الشاوية. ووصف نجمي الراحل بأنه مثقف عصامي عرف بنشاطه في إطار مسرح الهواة، ونشر قصائده في الصحف المغربية والعربية. الطاقة الإيجابية للإنسان. حين خرجت مدينة سطات في جنازة مهيبة وضخمة لتودع الشاعر الصديق سعيد سمعلي، السبت الماضي، فإنها إنما خرجت لتمارس طقس وفاء لواحد من أبنائها الذين ما خانوا قط اسمها ولا تاجروا بتاريخها، بل كان من الذين وهبوها قيمة في سلم القيم الإبداعية، مغربيا وعربيا، في الزمن المعلوم، الذي كان الكل يستبيح اسم المدينة، زمن الراحل ادريس البصري (وزير الدولة في الداخلية الذي كان). وأيضا، لأنه حين كان الكثيرون يهتبلون أعتاب السلطة هناك، كان هو في قمة مواقفه الشماء من يسعى إليه لكسب وده، وما كان يسلم في رأسماله الأبقى: سيرة الشاعر التي تدوم. ورغم خيانة الجسد له، بعد أن تعبت منه الكليتان وأضربتا عن العمل لسنوات، وما تلا ذلك من مرض السكري، ظل سعيد سمعلي بذات الضحكة وذات الإنطلاق وذات الموقف الراسخ المحب للقيم الجميلة في الحياة. وكنت أسعد باتصال هاتفي معه كل جمعة، يحكي لي فيه تفاصيل عن يوميه وعن أرائه في الكتابة والمواقف والناس. وكان دوما يصدر عن رؤية الإنسان الممتلئ بيقين أن الحياة تستحق أن تعاش. أن تعاش بشرف. وكم كان يفرح أن يقول لي، مثلا، في ما يشبه الإصرار الذي يتملك المؤمن، أنا تحت شجرة وارفة في البادية وحولي العائلة، ولسان حاله يكاد يقول فرحا، هذه جنتي التي لا تزول. ولم يكن سعيد سمعلي قط رجل تشكي. أبدا، ما كلمني عن مرضه أو آلام المرض ورحلة الدياليز أو ارتفاع الضغط. بل كانت الضحكة دوما صدقته التي يوزعها على الناس. بذلك، فالرجل شامخ، لأنه ظل مصدرا للفرح. كانت شكواه الوحيدة الدائمة، هي من تبدل القيم في البلاد، ومن تبدل الكثير من الصحب الذين ذابوا في الزحام. ومن تربته الإنسانية الخاصة، التي جعلت منه مصدرا دائما لطاقة إيجابية، كان دوما يمنح للآخرين سببا للإعتذار والتفهم. وكم كان يفرح حين يقرأ نصا أدبيا جميلا لأي اسم من دنيا الأدب، قائلا: «الأساسي أن تتسع قبيلة الجمال بيننا». ورغم انقطاعه عن الجريدة (زيارة) منذ سنوات، كان قارئا وفيا لها وفاء الإبن لأمه الأرض. كان يعتب نعم، لكنه كان لا يفرط في الدم قط. وهو بذلك ابن للزمن الذي يكاد يكون قد ولى إلى الأبد، الزمن الذي كانت فيه الرجولة موقفا والشعر سلوكا قبل أن يكون قصيدة كلمات. وأكاد لا أصدق أنه رحل ودخل قارة الغياب، وقارة الصمت، وأتوهم أن هاتفي سيرن كل جمعة مساء، في ذات التوقيت المعتاد بيننا، كي يطلع اسمه في شاشة الهاتف ويتحدث هو وأستمع أنا.. بل أعترف: أتعلم أنا. أتعلم من سيرة رجل في الحياة، عاش برأسمال اسمه: «الإباء». كم سيضحك ضحكته البدوية الجميلة، بفلجة أسنانه التي تميزه، فتطلع في الصورة أمامي صورة أخرى بذات الضحكة، لابن آخر للشاوية، الشاعر حسن نجمي، فأدرك أن الأرض هناك في تلك الروابي الغنية بالحياة، معطاء لطينة خاصة من الرجال. رجال يقولون للوقت بيقين الأنفس الممتلئة: «تبكي على امها». وإن كنت لن أنسى، من بين أسباب فرحه الهائلة في الحياة، فإنني سأظل أذكر فرحه الذي بلا ضفاف بأبنائه وسلالته، الذين كانوا فخره الأكبر، الذي يحرص أن يقوله أمامك باعتزاز. لقد منحوه عاليا فرح الأب.