في درب صاحبة الجلالة، ثمة مشاريع تولد من احتكاكنا اليومي بالواقع ( بصفتنا من مؤرخي اليومي)، وكثيرا ما تظل تلك المشاريع ساكنة الذاكرة، مثل سر نائم في رف ما، تنتظر أن يسمح تزاحم المهام وفتنة الوقت بإنجازها. وقد يحدث كثيرا، أن نبدد عمرا كاملا دون أن نتمكن من تحقيق تلك المشاريع الصحفية. شخصيا، سمح لي الإحتكاك بأمهات مغربيات في سياقات اجتماعية متعددة، أن يظل مشروع مهني ساكنا ذاكرتي، يوخز ضميري المهني، أنني ما وفيت وعدا قطعته منذ سنوات مع ذاتي، في أن أنجز متوالية بورتريهات لنساء مغربيات، عرفتهن، عنوانا عن معنى للمرأة المغربية كما تحقق في النصف الأخير من القرن العشرين. وهي بورتريهات محكومة بروح الوفاء في الأول والأخير. وهن نساء، ظللت وسأبقى أنظر إليهن كنخلات سامقات ظليلات في معنى الأمومة والمقاومة من أجل حياة كريمة. منهن أم أحد شهداء المغرب من ضباط المدفعية سقط في الجولان سنة 1973، منهن أم ترملت قبل الوقت يحيط بها سبع من الأبناء الصغار زغب الحواصل وكيف بلغت بهن بر الأمان، منهن أمهات معتقلي اليسار المغربي سنوات السبعينات والثمانينات حتى صدور العفو العام لسنة 1994 . وضمن صف هؤلاء الأمهات المبجلات، لا يمكنني قط أن أنسى ملامح سيدتين مغربيتين مقاومتين وعميقتي الإنتماء لمعنى أن تكون "مغربيا"، هما الراحلتان ثريا السقاط، بمشيتها المتثاقلة ونظرة عينها الرصينة الحانية وصوتها الهادئ الذي لا صخب فيه، ثم تلك الروح التي كانت تفوح منها أنها أم للجميع. والأهم في كل ذلك أنها كانت سلسة في عواطفها وردود فعلها وأنها ما كانت تتصنع شيئا، بل كانت امرأة مغربية من زمن خاص. ثم السعدية الدريدي، بجسمها العليل، ونحافتها المراكشية، ولكنتها الصاعدة من غبار الأمكنة العتيقة لدروب مراكش المثقلة ليس فقط بالتاريخ ، بل بعزة النفس أيضا. وإذ أذكر هذه الأم وهي تزور جريدتنا باستمرار، حتى كادت مكاتب الجريدة أن تكون خيمتها الثانية بعد بيت العائلة، أذكر «النيف»، أي ذلك الإباء الهائل الذي يجعلها، هي المنسلة من صهد الوقت المغربي الحارق حينها، ورغم موت ابنها في السجن بسبب إضراب عن الطعام وموت الزوج حسرة عليه بعد ذلك، بقي الرأس فيها عاليا لا ينحني لغير السماء. بل لا تزال رنة صوتها عالقة في الذاكرة، وطراوة ضحكاتها تملأ حيطان الجريدة، وأكيد أن الزميلين حسن نجمي ومصطفى العراقي، لا يزالان يذكران اختيارها لكرسي في الطابق الأول، وكيف كانت تنطلق محللة للفعل السياسي النضالي بعد أن تسعل سعلتين وأن ترتب منديلها مثل أي أم تحس أنها بلغت بيتها وأنها أمام أبنائها. ياه أيتها السيدة الجليلة السعدية الدريدي، بهية كنت وبهية ستظلين. اليوم، 19 فبراير 2012 تحل الذكرى العشرون لرحيل الأم ثريا السقاط، شقيقة الملحن المغربي الكبير عبد الرحيم السقاط ( لحنه الخالد لأغنية قطار الحياة للفنان عبد الهادي بلخياط عنوان سام عنه)، زوجة المناضل الإتحادي المسفيوي الكبير، الطفل والشاعر والإنسان والرجل الصلب، محمد الوديع الأسفي، وأم صف من الأبناء الذين تقسموا بين السجون كضريبة للنضال وبين دراسة الحقوق كتخصص علمي للدفاع عن المظلومين، فكانت منهم القاضية ومنهم المحامية. إننا إذ نستحضر هنا روح ثريا السقاط، وسيرتها، إنما نستعيد جانبا مشرقا من هويتنا المغربية وليس فقط من هوية اليسار والإتحاد بالمغرب. نستحضر نموذجا للمرأة المغربية، التي كانت تخرج لتقول للقبح ما أخبث عينيك، ورائحة الخبز لا تزال عالقة بأظافرها، عنوانا أن العزة موقف. في ذلك الزمن، الصعب للحريات بالمغرب، زمن الإختطافات بالجملة والإعتقالات بدون محاكمة لشهور وأحيانا لسنوات، كانت ثريا السقاط، اسما يؤرق مؤسسة كاملة للأمن وكانت لوحدها مؤسسة نضالية قائمة الذات، تجعل الجلادين حينها، وقد تعبوا من ردعها وتعنيفها، يهمسون لبعضهم: «ناري هايا جات ثاني». كانت سيدة لا تتعب. ولهذا تعب منها الجسد سريعا ورحلت باكرا قبل الأوان، بالمعنى الذي يقوله كل ابن أمام أمه التي يختطفها الموت. والكثيرون ربما، لا يعرفون أنها على قدر ما ناضلت في ساحة الفعل أمام السجون والمعتقلات ونظمت أمهات المعتقلين وحولتهم إلى قوة ضغط هائلة، كان لها صدى دولي في أروقة الأممالمتحدة وفي منظمة أمنستي وفي مكتب حقوق الإنسان بجنيف التابع للأمم المتحدة وفي المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ، وفي فلسطين ياسر عرفات وفي جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا. على قدر ما رسمت خريطة طريق نضالية حاسمة مع أمهات المعتقلين حتى بعد أن أطلق سراح أبنائها وزوجها، فإنها ناضلت داخل حزب عبد الرحيم بوعبيد وبدعم كامل منه، من أجل حق النساء الإتحاديات في المشاركة في القرار الحزبي، وهنا كانت المعركة ثقافية سلوكية بامتياز، أعطت الراحلة ثريا السقاط عنها المثال عن معنى التحول في الذهنيات بالمغرب. أراها تنزل من سيارتها عند باب الجريدة، وأرى الرجال الذين سلخوا السنوات في عذابات السجون والمعتقلات، مثل الراحلين الحسين إيخيش وبنبلة الولوسي وعواد كندة، كيف يقفون لها احتراما وكيف تفرح فيهم الأعين أنهم أمام امرأة مغربية مناضلة قوية الروح وقوية الإرادة وصلبة التربية. وفي حضرتها يتحولون إلى ما يشبه الأبناء الفرحين بعودة أمهم من سفر طويل. حينها أدركت معنى العائلة التي تجمع ذلك الجيل من المناضلين، الذين أدوا ضرائب هائلة من وجودهم ومن حياتهم ورحلوا كما كانوا، عراة إلا من كسوة الإباء والتصالح مع الذات والضمير الحي المتقد ورأسمال ذلك الإحساس الذي لا يقدر بثمن: «عزة النفس». أراها بذات الإنحناءة القليلة في الكتف الأيسر من كثرة ما حملت من رسائل ومناشير ومطالب لأمهات المعتقلين، بنظاراتها الطبية الكبيرة، بتصفيفة الشعر التي لا تتقنها سوى نساء فاس وتطوان وطنجة، بقوة اللسان الذي يذهب رأسا لمواضيعه الجدية بلا التواء، ثم تلك الطاقة الهائلة لمكرمة قبول التعدد والإختلاف. ثم ذلك الحزن الساكن العين رغم كل شئ، الحزن الذي كان عنوان يقين يسكن الخاطر أن المغرب يستحق أحسن. إننا إذ نستعيد سيرة أم مناضلة مثل الراحلة ثريا السقاط، إنما نستعيد صورة لمغرب غني بنسائه اللواتي كن متصالحات مع الحق ومع العدل ومع الحياة.