الأحداث المأساوية التي شهدتها مدن تازة، بني ملال، الجديدة وقبلها مدينة طنجة ومناطق أخرى من المغرب تستوجب أكثر من وقفة تأمل لمعرفة الدروس التي يستوجب معها التحرك في هذا الاتجاه أو ذاك، لنزع فتيل أزمة قد تتطور إلى ما لاتحمد عقباه. فلا يكفي القول إن هناك من المتربصين من يريدون تأزيم الأوضاع للركوب عليها وفق أجندات خاصة للالتفاف على المطالب المشروعة للساكنة، لايكفي القول إن العنف المبالغ فيه والذي دونته المواقع الإلكترونية ليس إلا رد فعل على تحول الاحتجاج السلمي إلى مواجهات عنيفة، لايكفي الخروج ببيانات رسمية تحمل بين طياتها لغة الوعيد وتبشرنا بأن الأوضاع عادت إلى حالتها الطبيعية في هذه المدينة أو تلك، وأن المنابر الإعلامية ما انفكت تضخم الأمور، لايكفي الادعاء بأن السلطات العمومية تعاملت «بمرونة واضحة!» إزاء الممارسات السلمية بغض النظر عن الشكليات القانونية، حيث لم تسجل أي متابعات أو اعتقالات على هذا الصعيد، مؤكدا أنه كان هناك حرص على حماية السلامة الجسدية للمواطنين والقوات العمومية والممتلكات العامة والطرق العمومية، لايكفي كل هذا وذاك لإعادة الثقة إلى المواطنين الغارقين في بحر المعاناة والنسيان، فنحن لسنا بحاجة إلى أكثر من وعد ووعيد، نحن بحاجة إلى مقاربة شمولية لمعالجة الإشكاليات الاجتماعية ببلادنا وعدم اعتماد مبدأ الازدواجية في الخطاب بين العنف والمهادنة، فموجة الاحتجاجات التي انتشرت كالنار في الهشيم في مجموعة من المدن والقرى المغربية لاتوحي بأن الأمر يتعلق بأجندات سياسية لهذا الفصيل أو ذلك، بل تؤكد بأن الحرمان والمعاناة والتهميش بلغ حدا لايمكن معه للمواطن أن يقف مكتوف الأيدي من دون احتجاج سلمي قد يتحول إلى عنف في حال استفزاز أو محاولة من هذا الطرف أو ذاك إسكات صوته الذي انطلق صادحا مطالبا بحقه في العيش الكريم وفي التمتع بكامل حقوقه المشروعة. عندما انتفضت مدينة تازة في وجه الإقصاء الزائر للأحياء التي شهدت المواجهات يلاحظ عن قرب مدى حالة الاحتقان والهدوء المشوب بالحذر.. الزائر للمدينة والمجالس لساكنتها يدرك تمام الإدراك بأن الثقة فقدت بين الطرفين، خاصة وأن لغة الوعد والوعيد والرغبة في الانتقام أصبحت سائدة بين مجموعة من السكان، خاصة الشباب منهم والذين أحسوا بالغبن و« الحكرة» وهم يعاينون عمليات اقتحام المنازل والعبث بالممتلكات ويطالعون تصريحات وزير الإعلام والمسؤولين الجدد وهم ينفون ما رأوه بأعينهم ودونته كاميراتهم وهم عليه شهود، وأيضا بعد صدور الأحكام في حق المعتقلين على خلفية الأحداث الأخيرة. لنقف وقفة المتأمل المحلل للأوضاع بعيدا عن أية مزايدات. لقد نبه الجميع، من أحزاب وطنية وجمعيات مجتمع مدني، وحقوقيين ومواطنين عاديين، إلى أن الأمر بلغ حدا لايمكن التكهن بمآله وسميت الأسماء بمسمياتها، إلا أن القائمين على الأمور محليا ومركزيا، كانوا يقللون من أهمية الاحتجاجات والاحتكاكات إلى أن انفجرت الأوضاع... وعوض اتخاذ المبادرة لمعالجة الأوضاع، لجأوا مرة أخرى إلى نهج المقاربة الأمنية، ظنا منهم بأن سياسة التخويف والترهيب قد تعطي أكلها، متناسين أن المرحلة تقتضي تغليب المعالجة الجذرية وفق مقاربة تشاركية مع مختلف الفاعلين. إن المواجهات التي اندلعت في تازة أوضحت أن المواطنين خرجوا للتعبير بطريقتهم الخاصة عما يشعرون به وعما يريدونه، لأن طرفاً ما نجح في إحكام سيطرته على زمام الأمور لسنوات بهذه المدينة، وأظهرت الأيام فشله في تحريك عجلة التنمية، وساهم من حيث يدري أو لايدري، في تعقيد الأمور، فهل بالوعد والوعيد سيتم حل المشاكل المستعصية؟!... وهل بالعسكرة وملاحقة الناشطين والمحاكمات الجارية سنتمكن من إقناع الساكنة بالعودة إلى الحياة العادية، وبأن هناك من سيتكلف بتدبير المرحلة باسمها ولصالحها؟!... هي دروس يجب أن نستخلصها، فمن السهل القول بوجود أجندات سياسية لأطراف ما، من السهل جدا أن نقول غير الحقيقة عما حدث عن علم أو غير علم، ونجعل المواطن التازي يموت حنقا كلما رأى من تكفل بالرد على تفاصيل ماوقع في تازة. ومن السهل كذلك أن نقنع من يقطن بعيدا عن المدينة بمئات الكيلومترات بأن الأمور ليست بالشكل الذي يتم الترويج له، لكن لن نستطيع إقناع الساكنة التي عاشت الوقائع دقيقة بدقيقة واكتوت بنار المواجهات وكانت عليها من الأشهاد... ومن الصعب أيضا - كل الصعب - أن نعيد الأمور إلى نصابها والمقاربة الأمنية حاضرة بقوة في معالجة الأوضاع. أحداث مدينة تازة تصدرت أول جلسة للأسئلة الشفوية بمجلس النواب الجديد وذلك ضمن الأسئلة المحورية، حيث تمت مناقشة المسألة في جوانبها القضائية والأمنية، حيث فاجأ وزير الداخلية امحند العنصر أثناء رده على الأسئلة المطروحة في هذا السياق، أن المواجهات لم تتجاوز رقعة 500 متر مربع، وهو الأمر الذي استهجنه النواب قبل أن يضيف، بأن الحكومة منكبة وفق مقاربة متعددة الأبعاد، على معالجة المشاكل الاجتماعية التي كانت وراء الأحداث التي عرفتها مدينة تازة، مضيفا أن الحكومة عملت على إحداث لجنة تضم مسؤولين حكوميين ومنتخبين وممثلين عن السكان من أجل إيجاد الحلول لبعض المشاكل الاجتماعية الملحة والتفكير في حلول ملائمة للإشكاليات الاجتماعية التي تحتاج إلى مزيد من الوقت، مشيرا إلى أن هذه اللجنة لا تهم مدينة تازة فقط. تصريح السيد وزير الداخلية بكون التفكير في إيجاد حلول للمشاكل العالقة يهم مدنا أخرى أيضا غير مدينة تازة يحيل على مناطق أخرى شهدت انتفاضات ومواجهات على خلفية اجتماعية صرفة. عدد من النواب في معرض تعقيبهم على أجوبة وزيري الداخلية والعدل والحريات، أن أحداث تازة، وهي أحداث تقع في عدد من المدن ينبغي أن تعالج من خلال مقاربة شمولية وليس أمنية فقط، محذرين من أن تنتقل هذه الأحداث إلى مناطق أخرى تعاني هي الأخرى من أوضاع اجتماعية مماثلة، كما دعوا إلى التصدي لكافة أشكال الفساد، ولاسيما المرتبط بالتدبير المحلي، داعين إلى تصحيح الانفلاتات في إطار ما يضمنه الدستور من حقوق وحريات ووفق مقاربة مندمجة لتجاوز الأوضاع الاجتماعية التي كانت وراء هذه الأحداث. انتفاضة بني ملال بين العنف والعنف المضاد إذا كانت أحداث تازة قد قامت على أساس مطالب اجتماعية صرفة ومحددة وتطورت بعد الاعتقالات والمتابعات القضائية في حق مجموعة من شباب المدينة، فإن ماوقع في مدينة بني ملال يعد مؤشرا على أن الأوضاع بالمدينة وبالجهة تدفع في اتجاه المواجهة بين الأمن والناشطين بالمدينة، حيث اندلعت شرارة هذه الأحداث عشية يوم الأحد بساحة المسيرة، موطن نشطاء حركة عشرين فبراير بالمدينة، بعد أن عرفت الساحة إنزالا قويا لمختلف قوات الأمن العمومي مقابل تصعيد غير مسبوق في لهجة مؤطري حركة 20 فبراير متمثلة في العنف اللفظي والبصق على وجه باشا المدينة ونعته ب «الشفار» واستعمال كلام نابي في حق رجال الأمن، وبعد ذلك محاولة صب مادة الدوليو على جسد أحد نشطاء الحركة من أعلى منصة التظاهر وتدخل بعض رجال الأمن لثنيه عن محاولة إضرام النار بجسده وإيقاف عروضه التي كان يلقيها بواسطة جهاز العرض على الشاشة، ;data show وتطورت الأمور إلى تدخل عنيف لقوات الأمن لتفريق المتظاهرين قوبل بتصدي حركة 20 فبراير لذلك من خلال الرشق المكثف بالحجارة، وهو ما حول المشهد من مجرد اصطدام بين المتظاهرين وقوات الأمن إلى شبه انتفاضة اختلط فيها الجميع، ولم يعد يفرق المتتبع بين المتظاهر والمحتج سلميا وبين الجانح والمخرب، حيث انفلتت الأمور وقام البعض بأعمال تخريبية تتسم بالعدوانية والجنوح الإجرامي الذي لا علاقة له بقيم ومطالب حركة 20 فبراير، وخاصة اقتحام مؤسسة بنكية وتكسير شباكها الأوتوماتيكي وتخريب واجهات المؤسسات البنكية وإلحاق أضرار بالسيارات وبالشارع العام، وقد استمرت عملية رشق قوات الأمن بالحجارة لأزيد من أربع ساعات عرفت خلالها تدخل قوات الأمن في عملية كر وفر بين الطرفين من ساحة المسيرة وعلى طول شارع محمد الخامس وشارع الجيش الملكي لتمتد هذه المواجهات إلى كل من أحياء العامرية وأحمد الحنصالي وشارع المتنبي، وأبدى العديد من الفاعلين بالمدينة عن اندهاشهم واستغرابهم من هذا التطور الخطير في صيغ وطرق الاحتجاج، كما أجمعت العديد من الشهادات على رفضها لمثل هذه الأحداث، وبين مندهش ومؤيد ورافض ومندد لهذا المنحى الذي لم تألفه مدينة بني ملال، جاءت بعض الشهادات الصادمة لتؤكد أن الإنزال القوي لرجال الأمن كان سببا في اندلاع هذه المواجهات، كما تضيف شهادات أخرى أن مثل هذه المواجهات أمر طبيعي نتيجة للأوضاع المزرية التي يعيشها المواطن وبالخصوص معضلة البطالة ونهب المال العام من طرف المفسدين وتبديد ثروات الجهة ومؤهلاتها الاقتصادية واستثمار قدراتها والمؤهلات التي تزخر بها لتنمية المنطقة في مآرب شخصية للاغتناء اللامشروط، وهو ما أدى إلى ترك الحبل على الغارب، حتى استفحلت الأمور وتأزمت الأوضاع الاجتماعية، حيث تفشت آفت البطالة والمحسوبية والزبونية وتدهور الأوضاع الأمنية من خلال استفحال الجريمة بشتى أنواعها، الأمر الذي يدفع إلى القول بأن الأوضاع بهذه المدينة على فوهة بركان يتطلب التعامل معها بكل حكمة وموضوعية لنزع فتيل أزمة قد تعيد المدينة إلى ماض هي في غنى عنه.