حزينا كان يوم الثلاثاء 17 يناير. سعيد منتسب، الذي ليس أبدا نذير شؤم، يخبرك في صباح الجريدة هذا برحيل محمد السوسدي. يحضرك توا صوت وصورة الذي غاب جسديا، رغم أنه لن يغيب من ذاكرة المغاربة (وفقا للمقولة التي تعودنا على ترديدها مثلما كنا متعودين على تحية العلم مع ترديد النشيط الوطني صغارا(، وهو يصدح: «بغيت بلادي أمي...» ويحضرك آخر لقاء معه. كان لمشاهب ينشدون «الحصلة». طالب الجميع بإعادة الأسطوانة، لكي نورط الراحل في إلقاء مطلع الأغنية مباشرة، بدون وساطة التكنولوجيا السمعية الوائدة للتواصل غير اللغوي. شيخنا الطيب حذيفة، العارف بتفاصيل الفن المغربي الأصيل، والعالم المكرس في مجالات أخرى لعل من أبرزها أسرار قاموس الأكاديمية الفرنسية، رافق السوسدي لحظة. ثم صمت. كأنه يعترف مجازا وبتواضعه الخارق أنه «لا يفتى ومالك في المدينة»! نظرات عشق وتقدير تلك التي أشعت، ذلك اللقاء، من عيون مولاي عبد العزيز الطاهري، نور الدين بكر، الفنان عمران، حسن نرايس ومصطفى النحال... زوال ذات الثلاثاء المفجع، حين وصلني البورتريه الذي رسمه التشكيلي عبد بلعباس (الذي يفضل عدم تنظيم معارض للوحاته وبورتريهاته لحاجة في نفس مازاغان)، تذكرت أيام الوهج الإيديولوجي والأحلام الكبيرة بتغيير العالم. تذكرت أمسية المسرح البلدي بالجديدة في أواسط سبعينيات القرن الماضي ونحن نصيح في وجه لمشاهب حين ينشدون: «وا حيدوس آحيدوس آه»، نصيح نحن بلكنتنا الطلابية: « وا حيدوه آحيدوه آه». تذكرت أننا أثثنا، حينذاك وقبلها وبعدها، الصمت الذي يلي «هاذيك ارسامي»، في أغنية «خليلي»، بصيحة شبيبية مدوية «ماو تسي تونغ»! تدفق سيل الحفلات الفنية واللقاءات العامة والخاصة للتمتع بفنان راق ونبيل، ولمصاحبة إنسان متحفظ رغم سكاكين ذوي القربى المشحوذة، تدفق السيل يوم الثلاثاء البئيس ذاك لأن «الموت هي الذكرى الأعمق» (إرنست يونغر).. أليس بإمكاننا محو أيام بعينها من تقويم الزمن المتدفق بلا هوادة؟ لو كان بقدرتنا هذا، لتسلحنا بالممسحة ومحونا الثلاثاء ذاك من ذاكرة الأيام. خاصة أنه سيحمل، لاحقا، خبرا مرجحا سيؤكده الصديق عمر لبشيريت: انتقال رويشة إلى جوار ربه في ذات اليوم (كأن الله يقيم في المقابر وليس في قلوب المؤمنين!). لكننا أقل سلطة من غريغوريس الثالث عشر، بابا روما خلال نهاية القرن السادس عشر. انزعج البابا هذا، سنة 1582، من كون الاعتدال الربيعي المحدد لموعد عيد الفصح المقدس وافق ذلك العام 11 مارس بدل 21 من الشهر ذاته. خلص غريغوريس الثالث عشر إلى أن سبب الاختلال ذاك خطأ بشري يكمن في تقويم الزمن المعتمد حينها (التقويم اليولياني)، وليس خطأ ربانيا (حاشا)، فأصدر أوامره المطاعة للراهب كريستوفر كلي، المعروف بكلافيوس، ليقوم بإصلاح الخطأ. دون الدخول في تفاصيل دقيقة حول الاقتراحات الذي قدمها الراهب للبابا، والتي اعتمدها هذا الأخير فارضا إياها على الدول الكاثوليكية أولا، قبل أن يتبناها العالم برمته في القرن الماضي، نشير إلى أن ضرورات احترام تاريخ موحد سنويا للاحتفالات المسيحية ب»باك» جعلت الناس، سنة 1582، يروحون إلى أسرتهم للنوم ليلة الخميس 4 أكتوبر، ويستيقظون صباح الجمعة... الجمعة 15 أكتوبر وليس 5 أكتوبر! أجل، لقد قرر غريغوريس الثالث عشر، ببساطة، حذف عشرة أيام من التقويم السابق ومن حياة الناس. أجل، لو كان الواحد منا يتوفر على قسط بسيط من سلطة غريغوريوس الثالث عشر، لما تردد في حذف الثلاثاء 17 يناير، المفعم ببخور الموت، من أيام بداية 2012، ولكنا استيقظنا صباح الأربعاء، بعد خلودنا للنوم ليلة الاثنين، وقد عطلنا زيارة ملك الموت للسوسدي ورويشة... وجعلناه رقما إضافيا في إحصائيات المعطلين عن العمل! هو ورفيقاه منكر ونكير! لكننا عاجزون عن محو يوم واحد ويتيم من أيام الله، بينما بابا روما أحكم ممحاته على عشرة أيام برمتها. ورغم كل هذا العجز، أردد ما حضرني وما كتبته يوم غاب الرائع المختار الغرباني، لأن المقولة تلك سكنتني مجددا ، مثل جنية، حين حلقتَ عاليا في السماء يا «حمودة»: «لا يمكن للأحياء تلقين شيء للمتوفين، وبالمقابل، فالمتوفون هم الذين يعلمون الأحياء» (شاطوبريان). دعني أردد أمامك، أنا الذي كنت أفضل الإنصات لك، مع تذكيرك - بين الفينة والأخرى- أن الوالد لم يطلق علي اسم «أستاذ سعيد»، حين ذبح «الفروج» يوم ولادتي، بل «سعيد» فحسب، دعني أغادر دور الصامت- المنصت لأردد في حضرة غيابك ما يصلني، اللحظة، وما يصل كل أحبائك المخلصين، من صدى بوحك. أخالك، سي محمد، تستعير اللحظة شعرية وبلاغة رونسار، وتتقمص صوته لتصدح بقصيدته «لم أعد أمتلك غير العظام»: «Je n'ai plus que les os, un squelette je semble, Décharné, dénervé, démusclé, dépulpé, Que le trait de la mort sans pardon a frappé, Je n'ose voir mes bras que de peur je ne tremble. Apollon et son fils, deux grands maîtres ensemble, Ne me sauraient guérir, leur métier m'a trompé; Adieu, plaisant Soleil, mon oeil est étoupé, Mon corps s'en va descendre où tout se désassemble. Quel ami me voyant en ce point dépouillé Ne remporte au logis un oeil triste et mouillé, Me consolant au lit et me baisant le face, En essuyant mes yeux par la mort endormis Adieu, chers compagnons, adieu, mes chers amis, Je m'en vais le premier vous préparer la place.» - - - : مثل فرنسي.