منذ أن بدأ يتشكل لدي الوعي بالمسألة الثقافية، ومذ بدأت أنسج علاقاتي بالفنانين والمبدعين عموما، وجدت نفسي، وبشكل تلقائي، أميل إلى التعامل والتجاوب أكثر مع الشعراء الذين أصبحوا الأقرب إلى قلبي، فيما صرت أتتبع إنتاجاتهم كقارئ يتوق إلى تذوق الشعر للنهل من صوره وبلاغته ومعجمه الثري. لذلك أحب أن يكون النص الشعري هو ما أفتح به قراءة الملاحق الثقافية باستمرار، لقناعتي بكون القصيدة هي عنوان الصباحات المشرقة والمُبَشِّرة. ضمن هذه التواشجات الثقافية والإنسانية بالدرجة الأولى، أعتز أيما اعتزاز بصداقة شاعرنا المفلق محمد عنيبة الحمري، الذي يرتبط اسمه بمعاصرة أحمد المجاطي وعبد الله راجع وغيرهم من الشعراء المتميزين الذين لم يدخروا جهدا في تكريس الحداثة في الشعر المغربي. من هذه الزاوية كنت أتتبع ما ينشره من قصائد ومقالات عبر صفحات الجرائد، إلى أن تعرفت عليه عن كثب بمدينة إيموزار كندر، في إطار الملتقى الشعري الذي خصص تلك الدورة للشاعرة وفاء العمراني حينذاك فيما أذكر (2007)، حيث استطابت المجالسة والمعاقرة مع الأحباء: محمد عنيبة الحمري، عبد الناصر لقاح، بوجمعة أشفري، عبد الله عرفاوي، عبد العالي عصمت...في ذلك الفضاء الموسوم ب»المنظر الجميل»، المنتصب على ربوة الأطلس، كان لا بد أن ينتصر الشعر في حضرة الشعراء، ليتخذ الحديث مجراه حول الحساسيات الفنية في الشعر، وأنماط القصيدة وبناء أساليبها التصويرية والاستعارية، إلى الوقوف عند التفاصيل المتعلقة باللغة والعَروض والبحور والأوزان والإيقاعات. في هذا الصدد، ذكرت أني طالما عدت إلى كتاب «ميزان الذهب» الذي صعب علي ولوج معارجه، علني أتمكن من استيعاب قواعد الإيقاع والوزن، غير أني لم أتوفق بالشكل المطلوب، فإذا بالشاعر محمد عنيبة الحمري ينظر إلي عن قرب وابتسامته المعهودة مرسومة على محياه الوديع قائلا: دعك من «ميزان الذهب»، أكتب لي عنوانك البريدي، وسأرسل لك كتابا من تأليفي في الموضوع ذاته، وستجده أكثر يُسرا في التمرُّن. كذلك كان، بعد حوالي أسبوع من لقائنا، توصلت بظرف سميك يضم دواوين وكتاب «في الإيقاع الشعري» الذي قربني بالفعل، وبشكل جلي، من قواعد الوزن والنَّظم عموما، إذ «يطرح أسلوبا جديدا لتعرف الإيقاع الشعري بعد التقطيع مباشرة، معززا بنماذج تطبيقية، فيما يهدف إلى معالجة أَمْر الزِّحافات والعِلَل، بتقعيدها ضمن إثنتي عشرة قاعدة تحكُم كُلَّ التغييرات التي تطرأ على التفاعيل السبع». هذا الظرف المبهج الذي خًصًّني به السي محمد، منحني مجددا ما يبرر الاحتفاظ بصندوق البريد المركزي بمكناس، وقد انقطعت عنه رسائل الشاعر محمد الطوبي المنتظمة، ومع الطفرة الرقمية التي ابتلعَت بهاء المراسلات الورقية، لم يعد يستقبل إلا كشوفات البنك الفارغة وبيانات الضرائب. قلت، منذ وقتذاك، قررت الإبقاء على الصندوق في انتظار وصول ظرف مماثل لجديد إبداعات الصديق محمد. بداية بديوانه، «الحب مهزلة القرون» الصادر في 1969، مرورا ب «الشوق للإبحار» (1973) و «مرثية للمصلوبين» (1977) و»رعشات المكان» (1996) و «سم هذا البياض» (2000) إلى «انكسار الألوان»(2006)، ظل الشاعر محمد عنيبة الحمري ينحت أسلوبه الشعري بتأن ورصانة فائقين، باعتماد لغة في غاية الفخامة والشفافية، برؤية متيقظة، بقدر ما تَسْبِر أَغْوار المشاعر الذاتية، بقدر ما تنفتح على العالم، لتُنشد أبهى الصور، بتمام الصدق والحِرَفِية التي لا تقوم على دُربة جمالية وشعرية فحسب، بل أيضا على رصيد علمي ينبني على البحث المستديم في علوم التربية والأدب التراثي خاصة، ولعل كتاباته المنشورة ضمن حلقات مسلسلة بجريدة الاتحاد الاشتراكي: «إعدام الشعراء»، «مع الشعراء ذوي المهن الحرة»، «الشعراء الظواهر»، بقايا دم في يد الشعراء»، «نزوات السلطة»، تُحيلنا على حسه المعرفي الحاد للغوص في مثل هذه المواضيع الجادة والطريفة في الوقت ذاته. كل ذلك يصبح لديه منبتا مُزْهِرا لتحقيق أناقة مضاعفة، تنصهر عبرها أناقة الشعري والإنساني. لست ممن عايشوا إيقاع حياة السي محمد، غير أني مُوقِنٌ بكونه من ذوي الممسوسين بِعَبْقَرِ الليل الذي جمعنا ذات مصادفة برفقة صديقي الكاتب أحمد لطف الله في «سنترا» المتروبول: بقامته الرفيعة، منتشيا، راقصا ومردّدا، معانقا استقبلنا على ألحان « جفنه علّم الغزل» المؤداة بعزف الفنان حسن السقاط (سليل محمد عبد الوهاب). أغدق علينا السي محمد بكرمه، ومنحنا تذكرة التحليق الطفولي حول السقاط المشع برقيق النغم الذي يحوّله إلى قلعة لاستقطاب المخلوقات الليلية المملوكة بزمن الطرب الجميل. تبقى صورة الشاعر محمد عنيبة الحمري عندي مقرونة برفيق دربه الشاعر إدريس الملياني. على الدوام معا، يشتركان في تواطؤين على الأقل: أولهما يستند إلى الإصرار على ديمومة قرض الشعر والوفاء له، أما ثانيهما فإلى الإصرار على ديمومة حب الآخرين ليستقيم حب الحياة. هي ذي الوصفة التي تجعلهما يحظيان بديمومة الشباب في تقديري. سعيدٌ لمساهمتي في الاحتفاء بشاعر فَذ من طينة صديقنا الشاعر محمد عنيبة الحمري الموصول بأبهى آيات الحب والتقدير، وهو أهل لذلك بامتياز. سعيدٌ أيضا، لتواجدي بينكم في هذه الأمسية الاحتفالية الديونيزوسية الجميلة، بين الإخوة الكتاب والشعراء الباحثين والمبدعين الذين يمنحون للدار البيضاء ألقها الفني والثقافي والعلمي. فلكم مني جميعا أطيب الأماني بمناسبة حلول السنة الجديدة 2012. الجديدة، دجنبر 2011 * نص الشهادة التي ألقيت في حفل تكريم الشاعر محمد عنيبة الحمري، فضاء بوتي بوسيه، البيضاء، 30 دجنبر 2011