في التاسعة من عمري ، وكان ذلك في درب غلف بالدار البيضاء ، كان هناك تقليد سنه شقيقي الأكبر مع بعض أقرانه ، وهو أن يقتني كل فرد من المجموعة رواية أو مجموعة قصصية من مكتبة الضياء التي كنا نمر بالمحاذاة منها يوميا ونحن ذاهبين أو عائدين إلى مدرسة الحطيئة ، على أن يقدم كل واحد للمجموعة بعد ذلك تلخيصا أو ما يشبه ذلك لما قرأه. كان ذلك سنة 1977، وهي الفترة التي أصبت فيها بفضل هذا التجمع الصحي ب« «عدوى » القراءة .» ولأن أغلب الروايات والمجموعات التي كنا نقتنيها كانت من دور النشر البيروتية التي تتشابه أغلفتها وأحجامها ، فقد كان اختيارنا عشوائيا ، أو بالأحرى ما كان متوفرا لصاحب المكتبة ، الذي سن تقليدا مشجعا للأطفال الراغبين في القراءة ، حيث كان الواحد منا يقتني نسخة ب 4,50 دراهم ) 90 ريالا ( ويبدلها ب 0,50 درهم )عشرة ريالات ( الصفراء الثقيلة التي كان يمكن أن تصيب بعاهة من تقذفه بها ، وأصبحت الآن جزءا من ذاكرة جيلنا مثل كل الأشياء الجميلة التي افتقدناها. في البداية كان نصيبي روايات لإحسان عبد القدوس ، محمد عبد الحليم عبد الله وثروث أباظة ...حتى ذلك اليوم الذي ستنقلب فيها حياتي رأسا على عقب عندما بدلت إحداها بالمجموعة القصصية « «خمارة القط الأسود» » أسرتني تلك القصص المكتوبة بأسلوب مختلف عما ألفته والتي تفتح نوافذ على عوالم جديدة ، لا تجعل من حكايات الحب والزواج صلب اهتمامها بل تنتقل إلى أعمق من ذلك ، إلى كينونة الإنسان بمختلف تجلياتها وتقلباتها. لكن الرواية التي ستجعلني « مدمنا» لروايات محفوظ ومواظبا على قراءة كل ما تقع عليه يدي هي بكل تأكيد « «بداية ونهاية»» وقد حولها المخرج المبدع صلاح أبو سيف إلى شريط سينمائي ربما من أنجح ما نقل عن محفوظ إلى السينما . ولأنني كنت أعيش في « حارة » تشبه أجواءها « حارات نجيب محفوظ», فقد وجدت نفسي أجول في عالم غير غريب عني ، ولأول مرة أدرك أن « الحارة» بكل ما تحتويه من فقر وحنين ، من آلام وآحلام ، من تطلعات وانكسارات ، يمكن ليس فقط أن تشكل مادة للكتابة ، بل ومادة جيدة وجادة للحديث عن هذا الكائن البشري ، الذي لا يأتي إلى الدنيا ويجد بالضرورة الورود مفروشة أمامه. هكذا أصبحت مغرما بكتابات محفوظ ، وكنت عندما لا أجد واحدة في مكتبة الضياء ، أو واحدة لم أقرأها بعد ، أعود خائبا إلى البيت . قرأت عددا منها ، لكن الثلاثية ، التي عرفت في وقت لاحق أنها من أشهر الروايات التي كتبها ، لم أعثر عليها إلا في صيف 1981 ، وكنت آنذاك في آسفي ، وتصادف شهر غشت الحار مع شهر رمضان الذي لا يمكن التغلب على طول نهاره دون قراءة. ذلك الشهر ، وبمتعة لا تتصور قرأت « بين القصرين,» قصر الشوق» و« السكرية,» وأتذكر أنني عندما أنهيت الجزء الأول أحسست بحزن عميق على وفاة « فهمي أحمد عبد الجواد» كما لو كان أخي . في أكتوبر 1987 ، وكنت في مدينة الجديدة أتابع دراستي الجامعية ، كنت في المقهى المجاور عندما سمعت في إذاعة ميدي 1 خبر فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب . شعرت بسعادة بالغة لهذا الاعتراف الدولي لمن كنت وما أزال أعتبره « المعلم الأول» وركضت نحو البيت لأخبر باقي الأصدقاء بالنبأ. يعتبر نجيب محفوظ من أكثر الروائيين العرب الذين ترجمت أعمالهم إلى لغات أجنبية ، لكن أن تعاين هذه الحقيقة أمر مختلف ويبعث على الاعتزاز ، ففي جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ، كنت عندما ألج كبريات المكتبات التي تخصص رواقا أو أكثر للأدب العالمي ، أجد هناك دائما مكانا مخصصا لنجيب محفوظ ، وعندما سافرت إلى كولومبيا بعد ذلك ، كانت الهدية التي تلقيتها بمناسبة عيد ميلادي السادس والعشرين ، ثلاثية نجيب محفوظ مترجمة إلى الإسبانية. هناك في مدينة كالي بالضبط تعرفت على أورتيزيو ، شيخ كولومبي يعتبر معجزة بكل المقاييس ، اقترب من الثمانين، وكان مايزال قادرا على العمل في ورشة لإصلاح السيارات يوما بأكمله بقدرة هائلة تفوق قدرة شاب في العشرين. كانوا يدعونه «بارانكيا»، نسبة إلى مسقط رأسه بالمدينة الواقعة شمال كولومبيا على الساحل الأطلسي. ما شدني إليه أكثر، ثقافته الموسوعية وشغفه الكبير بالقراءة, رغم أنه لم يتجاوز المرحلة الابتدائية في دراسته . كان قارئا لا يكل وهو من عرفني على «خوسي ماريا فارغاس فيلا»، فعندما تحدثنا مرة عن عالم ماركيز الروائي، قال لي: إذا أردت أن تعرف عن قرب الأدب الكولومبي، فاقرأ فارغاس فيلا. ذات يوم، في استراحة الظهيرة، بحث عني إلى أن وجدني في ركن منزوي بالمطعم الذي نتناول فيه وجبة الغذاء، فسألني: - أين أنت أيها الصديق، لقد بحثت عنك ؟ أجبته أنني أقرأ مقالا عن نجيب محفوظ ، في جريدة محلية فقال لي: - أعرفه، لقد فاز بجائزة نوبل، للأسف لم أقرأ له لحد الآن. أخبرته أنني أملك رواية له مترجمة إلى الإسبانية، فرجاني أن أجيئه بها. كان الأمر يتعلق برواية «أولاد حارتنا»، قرأها في أقل من أسبوع ثم أعادها لي قائلا: - إن صاحبك، يقصد غابرييل غارسيا ماركيز، لا يساوي شيئا أمام كاتبكم الكبير هذا، إنها أجمل ما قرأت! كان موقفا غريبا من كولومبي يدافع عن كاتب عربي، أمام عربي يدافع عن كاتب كولومبي، فقلت له موضحا: - إن عظمة نجيب محفوظ تتجلى في كوننا، نحن العرب، لسنا بحاجة للدفاع عنه.