من خلال تتبع المجهودات المؤسساتية والفكرية في مجال دعم مشروع بناء المجتمع الديمقراطي الحداثي ببلادنا (مجهودات من أجل التقدم في مسار التحديث المجتمعي والمؤسساتي وتحقيق شروط النهضة)، لا يمكن للمرء إلا أن يسجل تقدم المغرب نسبيا في هذا المجال على مستوى الفكر والممارسة مقارنة مع وضع الدول العربية والمغاربية. وبالرغم من هذا التقدم الملموس بأبعاده السياسية، لا زال المجتمع المغربي يعاني من عدة ظواهر معرقلة للمشروع السالف الذكر، ظواهر تسبب في ظهورها واستفحالها منطق الازدواجية الثقافية (الأصالة «التقليد»/المعاصرة «الحداثة»)، وضعف نجاعة السياسات العمومية وأداء المؤسسات الرسمية والمجتمعية في مجال الأسرة والتربية والتعليم. إن ما يزيد الأمر تعقيدا، كون هذه العرقلة تستمر مجتمعيا في خنق المبادرات الاجتهادية والقدرات التأويلية في سياق دولي يعرف ارتفاعا متواصلا لعدد السكان، وتطورا سريعا لحاجيات الشعوب كما وكيفا، ناهيك عن كونه سياق سريع التجديد والتطور إلى درجة أصبح فيه الاستقرار والأمن والسلم والسلام داخل الدول والمجتمعات مرتبطا أشد الارتباط بمستوى تحسين القدرات المعرفية لدى الأفراد والجماعات. إنها متطلبات عصر العلم والمعرفة والمعلومة (الكتاب)، عصر حل فيه الشعور بالتفوق على الشعور بالرحمة والتآخي، وحلت فيه الأنانية محل الشعور بالتعاطف مع الآخرين ومساندتهم أوقات الشدة. وأمام هذا الوضع الملتبس لا يمكن إلا أن نتساءل: كيف يمكن أن تبقى بعض مظاهر الحيوية التقليدية فاعلة في الزمن الحاضر، علما بأن الزمان الحاضر لا يقبل العتاقة إلا من أجل محاربتها؟. ومن أجل تجاوز معرقلات المسار التحديثي، والإسهام في تنوير المستقبل ببلادنا، نرى، إضافة إلى ضرورة الاستمرار في إعادة قراءة المشاريع النهضوية التي استندت على الرصيد الفكري المشرقي والمغربي برواده أمثال ابن رشد والفرابي وابن خلدون والشاطبي وابن سينا وغيرهم (مشاريع محمد عابد الجابري(صاحب نقد العقل العربي)، وعبد الله العروي، محمد أركون، وطه عبد الرحمان، وحسن حنفي، والطيب تيزيني، وبرهان غليون،...) ، من أجل الإسهام في تطويرها وترسيخ الاجتهاد والتأويل في المجتمع من خلال تحرير الذات من التراث حتى تتمكن من فهمه واستيعابه ومن إعادة تركيبه (تفكيك التراث من أجل تسهيل تسرب الذات إليه لتصبح جزء منه وتمتيعها حق المبادرة في التفكير والتغيير معا)، التعجيل في تقوية الطابع التربوي داخل مؤسسة الأسرة المغربية وتشجيع الأجيال المتعاقبة على القراءة. كيف نشجع أطفالنا على القراء؟ من المعلوم أن العالمين العربي والمغاربي يعانيان من ضعف القراءة عند شعوبهما. لقد أكدت الدراسات تسجيل نسب ضعيفة في مجال القراءة بالرغم من كوننا من أبناء أمة «إقرأ». إنها أول كلمة، في أول آية، في أول سورة في القرآن الكريم. وهذا يعني أن أمة «اقرأ» لا تقرأ بالشكل المطلوب، وبذلك فأغلب أطفالنا لا يقرؤون. وعليه فوضعنا الثقافي والعقلاني المختل نسبيا ما هو إلا تجسيدا للاهتمام الضعيف للأسر المغربية بتربية أطفالهم بعلم، تربية سلوكية وتربية على القراءة. هذا، لأنه عندما يقرأ الكبار يقرأ الصغار، وتترسخ ثقافة القراءة في المجتمع، وتتحول المعرفة إلى عادة يومية يمارسها الناس كما يمارسون الطعام والشراب والرياضة والذهاب إلى أعمالهم.... نكتب في هذا المجال، طامحين الإسهام في تغيير منطق تدبير شؤون الأسرة ببلادنا وتذكير أرباب الأسر والمؤسسات الوصية بكون الإنفاق داخل الأسرة لتلبية حاجيات الجسم يبقى بدون فائدة إنسانية ما دام لا نصاحبه بالشكل الكافي بإنفاق على التربية والتعليم والتثقيف والتشجيع على القراءة والترفيه بالنسبة للأطفال. نقول هذا لأننا متيقنون أن الإّعداد للمستقبل يتطلب تضافر الجهود المؤسساتية والمجتمعية للرفع من جودة تنشئة الأجيال الجديدة من خلال إخضاعهم لتربية علمية وتحبيب القراءة لهم في سن مبكرة. إنها الخطوة المحورية والشاقة بالنسبة لمجتمعنا اليوم. فإضافة إلى تقوية القدرة المادية لتوفير الطعام والشراب على المستوى الفردي والعائلي والجماعي، يبقى تحقيق الكمال وتقدم الإنسان المغربي مرتبطين بمستوى القدرة المادية والمعرفية على إشباع حاجات الروح والعقل. وفي هذا الصدد، أكد المختصون في التربية أن السنوات الست الأولى من حياة الإنسان تعد حاسمة في بناء الأسس الأولى لشخصية الطفل وتشكيل رغباته وميوله واتجاهاته. وتأكد كذلك أن هذه الفترة الزمنية من عمر الطفل جد محورية في مجال التحبيب على القراءة وتحفيزه عليها. إنها الفترة التي ستمكنه من دخول سن المراهقة وهو شغوف بالقراءة ومتآلف مع الكتاب منذ الصغر. كما من شأن إهمال الطفل في هذه الفترة الزمنية من عمره وعدم تربيته على القراءة أن تدفعه إلى التفاعل مع الدعوات إلى الاهتمام بدراسته بنوع من المقاومة ويواجهها بنوع من الاستغراب والتذمر. وهنا يظهر جليا أنه في حالة فوات الأوان سيتعذر على الآباء والأمهات تحقيق نتائج مرضية في عملية الاستدراك. وعلى عكس ذلك، في حالة الوعي بأهمية هذه المرحلة في حياة الطفل، تصبح ممارسة القراءة في وقت مبكر أساس التفوق الدراسي في المراحل المختلفة الأخرى حيث يكون الوالدان (الأب والأم) أمام منتوج أسري (الطفل) دائم الوله والشغف بالقراءة واصطحاب الكتاب، ومرتفع القدرة على الإطلاع والبحث إلى درجة تجعله يقرأ يوميا كما يمارس الأكل والشرب واللعب، وبالتالي يمكنه حب القراءة من الرقي الروحي والعقلي ومن ترسيخ مداركه وتحسين قدرته على التخيل والإبداع، وتكوين تمثلات عن نماذج شخصيات أعجب بأخلاقها ومواقفها من خلال ما قرأ عنها. أما في حالة فوات الأوان، يجد الآباء والأمهات أنفسهم أمام أبناء فاقدين الانجذاب إلى الكتاب، وميالين بإدمان إلى اللعب ومتعلقين باللهو وبالأصحاب ومشاهدة القنوات التلفزية والإبحار في المواقع الالكترونية عبر الانترنيت بإفراط شديد. إن أهمية التربية على القراءة تتجلى في كونها تبعث في نفوس الأطفال الطموحات العالية، والتطلعات والأمنيات الراقية. كما تمكن القراءة الطفل الذي يعيش في بيئة أسرية غير ملائمة (الفقر، الأمية،...)، وهذا حال فئة عريضة من أطفال الشعب المغربي، من الخروج من فضائه الضيق ومن ظروفه الصعبة إلى فضاء واسع يمكنه من تقوية الثقة في نفسه والاعتزاز بذاته. واستحضارا لما لعبته التربية الأسرية العلمية والتشجيع على القراءة في المجتمعات الراقية حيث مكنتهم من تحقيق النهضة المجتمعية المطلوبة، نقوم فيما تبقى من هذا المقال بعرض مجموعة من الأفكار العلمية في هذا الشأن، على أن نعود في مقالات أخرى للتطرق إلى مواضيع أخرى ذات الصلة، طامحين أن يتوج مجهودنا بتجميع كل المساهمات على شكل دليل للتربية الأسرية، نضعه في آخر المطاف رهن إشارة الفاعلين لفتح نقاش فعلي في هذا الشأن لتعميم الفائدة على الأسر المغربية عبر قنوات مؤسساتية ومجتمعية (مجالس المؤسسات التعليمية، جمعيات آباء وأولياء التلاميذ، فضاءات التنشئة من دور الشباب، ودور الثقافة، ومراكز التكوين، منظمات المجتمع المدني ذات أهداف تربوية وتعليمية،.....). ومن ضمن الأفكار العلمية التي استنتجناها من خلال قراءاتنا في مجال التشجيع على القراءة نذكر: - تعميم الوعي بما تحدثه ممارسة القراءة في حياة الطفل من تغيير إيجابي يعتبر أول الخطوات لتقوية القدرة الاندماجية للأسر في السياسات العمومية في هذا الشأن. - التربية على القراءة ليست هي الدعوات المتكررة للآباء والأمهات إلى المطالعة واصطحاب الكتاب. فمعرفة الأسرة بقيمة العلم ومزاياه على حياة الإنسان لا تكفي، بل على الآباء والأمهات أن يجعلوا حب أطفالهم للقراءة واحدا من أهم أهدافهم التربوية الثابتة. - التشجيع والتربية على القراءة في السن الملائمة سيمكن من تجاوز محنة الميول إلى القراءة في الكبر وربح الوقت الوافر في مجال التكوين والتثقيف والأنسنة والإنتاج. ومع ذلك يبقى قطار الإقبال عن القراءة لا يفوت ولو في سن الثلاثين وسن الأربعين. - حسب ذوي الاختصاص، ترغيب الطفل في القراءة تبدأ قبل ولادته حيث يجب بدء العملية التربوية في هذا الشأن بسرد الحكايات على مسمعه بدءا من “الهدهدة” بإيقاع مختلف عن الكلام العادي بالنسبة للرضيع وإسماعه القصص وأغاني المهد (تنشيط مهارات الإصغاء والاستماع لديه). · عند بلوغ سن الثالثة، لا يجب أن يتجاوز زمن سرد القصص على الأطفال أكثر من خمس دقائق للمرة الواحدة مع اختيار قصص وحكايات تدور حول أشخاص وأشياء يعرفها الطفل ليفهم ويستوعب ما يحكى له (مواضيع حول حب الأب أو الأم، الاهتمام براحة الطفل وحمايته، المأكولات اللذيذة، التحدث عن الحيوانات الأليفة ورحمتها والرفق بها وإحضار الطعام لها، الحديث عن الأخ الأكبر وأنه سيحضر له الأشياء التي يحبها،.....). · في سن الخامسة، يصبح الطفل مستعدا لسماع حكايات وقصص لمدة قد تصل إلى عشر دقائق، على أن يتم ختم الحكايات كلما شعر الحاكي (الأب أو الأم) بملل الطفل وضعف انجذابه إلى الحديث. أما بخصوص نوعية الحكايات المناسبة لهذا السن، فإن الطفل يرتاح لتلك التي يتحدث فيها الحيوان بلسان الإنسان، وكذا قصص الحكايات اليومية المهذبة (النوم المبكر والاستيقاظ المبكر، السرقة ومصير السارق، مصير ممارس العنق، الكرم والتضامن، الرفق بالحيوانات،.....). - في سن السادسة تمتد قدرة الطفل لسماع الحكايات إلى حدود خمس عشرة دقيقة، ويفضل الأطفال في هذا السن القصص الخيالية والهزلية المضحكة. إن تفاعل الأطفال بالضحك مع الحكايات هو نوع من المرح المقوي للروح والشعور بالامتنان لمن يضحكه. في هذا السن كذلك يتمكن الطفل من التفريق بين الواقع والخيال ويعي وجدانيا أنه ليس كل ما يمكن تصوره يكون موجودا فعلا. وبهذا التمييز، يصبح هذا السن مناسبة لترسيخ فضيلة الصدق في نفس الطفل وذلك من خلال محاسبته على الكذب وشرح أضراره له. - الاختيار السليم لنوعية القصص والحكايات للأطفال حسب سنهم يساعد على تفادي الوقوع في حالة البطء في الفهم وفي الملل وعدم التركيز. - تجنب الضغط على الطفل من أجل الانتظام في القراءة لأن صبره على الاستمرار في الأعمال محدود لكون الاضطراب والانقطاع في إقباله على القراءة أمر طبيعي. - التحفيز التربوي على القراءة وشراء الكتب الجديدة عمليتان مستمرتان لا يجب أن تتأثرا بالنفور الظرفي للأطفال عن القراءة. - ضرورة الشعور بالارتياح والراحة والسرور عند قراءة قصة أو كتاب على الطفل استجابة لطلبه. وفي حالة عدم الاستعداد، وجب الاعتذار له وتحديد موعد لاحق وعدم نسيانه أو توكيل الزوجة أو أحد الأولاد الكبار بالقيام بذلك. - تجنب الوعظ لأنه يرسل إشارات سلبية واعتماد المرح والترغيب والإيحاء كآليات للتشجيع والتأثير. - تحديد وقت مشاهدة الأطفال للبرامج التلفزية وممارسة الألعاب، وقد يكون من المناسب إتاحة ساعة للمشاهدة وساعة للعب يوميا لمن تجاوز السابعة، أكثر من ذلك قليلا لمن هم دونها. وبهذا التحديد، سيتفادى الطفل لحظات الفراغ وسيتجه إلى القراءة والكتابة والرسم والأشغال الفنية. وحبذا لو قررت الأسرة إغلاق التلفاز بشكل كامل لمدة يوميين في الأسبوع من أجل كسر حدة التعود عند الطفل، والحيلولة دون افتتانه بمشاهدة الصور المتحركة والرسوم والألوان. - لا يجب مواجهة الفرط في الحركة والنقص في الانتباه والتركيز عند الطفل بالعنف، بل وجب التعامل معه بالاهتمام والرفق والصبر والتدرج. - التحري بالصدق مع الأطفال لكي لا يكتشفوا مع الأيام أن آباؤهم وأمهاتهم لم يكونوا يقولون لهم الحقيقة حول الكثير من الأمور، مما يساهم في اهتزاز الثقة والمصداقية داخل الأسرة. - التأكد من سمتي الفائدة والمتعة فيما يقرأه الطفل وما نقرؤه له. ومن أجل ذلك وجب اختيار الكتب (القصص والحكايات ذات الأسلوب السهل السائغ، والتي تشمل على عوامل الإثارة والتشويق)، والتي لا تشمل على عوامل الخوف والهلع (كالحكايات والقصص التي تتحدث عن الجن والعفاريت، والسحرة، والمجرمين، وعذاب القبر، وفقدان أحد الأقرباء الأعزاء أو إصابته بعاهات خطيرة،...). الحكايات والقصص المفيدة هي التي تبعث بالرسائل في مجال المبادئ والقيم الإنسانية الكبرى (مثل الصدق، والأمانة، والوفاء، والإحسان، والتسامح، والصبر، والمثابرة، والإتقان، والشجاعة الأدبية.....إلخ). - الحذر من الإفراط في استعمال آليتي التحفيز والمكافآت في دفع الأبناء إلى القيام ببعض الأعمال والكف عن بعض السلوكيات. الأهم هو توفير الجو الذي يجذب الطفل إلى القراءة والتعلم وأن توضح الأسرة للطفل أن ممارسته للقراءة على نحو يومي شيء لا بد منه، ولا خيار فيه، وأن تتعامل مع المكافأة المادية في أضيق الحدود لكي لا توحي للطفل بأن قراءته لقصة أو حكاية عبارة عن تطوع منه أو عمل يستفيد منه غيره. - المسؤول الأول على زرع الميول إلى القراءة والشغف بمصاحبة الكتاب هو الأسرة (الأب والأم)، وتسهل هذه المهمة عندما نكون أمام أسرة قارئة، تمارس القراءة وتنهمك في المطالعة والتثقيف، بل وتحمل هموما ثقافية بشكل يومي. وهنا بالذات أكدت الأبحاث أن دور الأسرة في جذب الطفل إلى القراءة أهم بكثير من دور المدرسة، وأن اتصال الطفل بالكتب والمواد المطبوعة في البيت قبل التحاقه بالمدرسة له تأثير كبير على نموه المعرفي بعد التحاقه بها. ويرقى التأثير على الطفل إلى مستويات عالية عندما يتوفر بيت الأسرة على مكتبة منزلية فيها من الكتب ما يغذي عقول الكبار، وما يغذي عقول الصغار. وحسب المختصين، من الأفضل أن لا تكون مكتبة المنزل محصورة في غرفة أو ركن من أركان المنزل، بل ينبغي أن تكون الكتب في كل مكان، وحبذا لو ساعدت الأسرة الطفل على أن تكون له مكتبته الخاصة. إضافة إلى البنية التجهيزية للمنزل الأسري وتشجيعها للقراءة، تمكين الطفل من الإحساس بكونه يعيش في أسرة سعيدة ومرحة ومتعاطفة تزيد من حماسه وتعلقه بالكتاب. وفي الأخير، نخبر القارئ أن اهتمامنا بالتربية العلمية داخل الأسر وآليات تشجيع الأطفال على القراءة لا ينفصل عن اهتمامنا بمجال التفكير في التراث المغربي وامتداداته الإقليمية والجهوية قصد تفكيكه وإعادة بناءه على أسس عقلانية تساعد على بناء تصور شمولي للمشروع المجتمعي الذي نريد تحقيقه.