الطفل البحري هو عنوان العمل الشعري الأول للشاعر إدريس علوش ، بعد عمله الشعري الثاني دفتر الموتى. أو لنقل ، واضعين النقاط على الحروف ، إن الطفل البحري هو الشاعر ذاته . طفلاً كُنتُ / و لا أزالُ أُداعبُ السّرابَ حينًا / و حيناً أبْحثُ عن هشيمِ الكَفّ وعنْ أطلالِ الوقتِ كَيْ أبكيها ! .. ( الطفل البحري ص : 19 .) و إن الأمر لكذلك حقا . فالطفل البحري هذا الشاعر إدريس علوش ، يظل دوما غارقا و مستغرقا في طفولته ، لأعني في صدق براءته و شقاوته و شغبه . و فارس الشهداء الذي يغنيه و يناجيه الشاعر في هذا العمل الشعري الجديد ، واضعين ثانية النقاط على الحروف ، هو الشهيد الفلسطيني المناضل الرفيق أبو علي مصطفى ، أحد قياديي ومناضلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين . هذه الجبهة المناضلة التي يكن لها الشاعر عميق المحبة و التقدير و الإجلال ، ويفخر ويباهي أن يكون أحد مريديها و حاملي شعلتها . هذا العمل الشعري إذن منذور و مرصود لفارس الشهداء ، أبي علي ، و لكل الفرسان و الشهداء الفلسطينيين ، على امتداد ، الأرض الفلسطينية ، وعلى امتداد الزمن الفلسطيني الملتهب بالغضب الفلسطيني . إن العمل الشعري للشاعر إدريس علوش ، الذي يغني فارس الشهداء ، يستعيد لنا فروسية الشهادة ، يستعيد لنا ألق ومجد الفروسية . كما يستعيد لنا أيضا وتبعا ، فروسية الشاعر وهو يغني فروسية الشهيد . يستعيد لنا بعبارة « أحلام الفارس القديم « حسب العنوان الجميل للشاعر الراحل ، صلاح عبد الصبور . ولكم جأرنا بالشكوى من افتقار متننا الشعري الحداثي الجديد ، إلى مثل هذا الوهج الفروسي الذي يحرك أوصال الكلمات الباردة ، و يضخ فيها نسوغ الحياة . و ها هو ذا الشاعر الثمانيني المتوهج دائما ، الطفل دائما ، إدريس علوش ، يستعيد لنا عبر نصوص هذا العمل الشعري الجديد ، بعض ذلك الوهج الفروسي المفتقد . و إن هذا العمل ليأتي مناسبا و مساوقا تماما ، لشرطه وتاريخه و سياقه . هذا السياق المتوتر المتفجر ، الذي تتعاظم و تتفاقم وقائعه و فواجعه . لعل واقعة الوقائع و فاجعة الفواجع ، في قرننا العشرين التعس ، هي فاجعة فلسطين ، و انتهابها أرضا و إنسانا و تاريخا على مرأى و مسمع من العالم السادر في لامبالاته .. و غيه . هذه الواقعة الفاجعة ، هي محور و هاجس العمل الشعري الجديد لإدريس علوش ( فارس الشهداء ) ، كما يتبدى من خلال العنوان . لكن الشاعر هنا ، لا يتفجع ولا يتألم ، لا يندب ولا يرثي ، كما يتبدى أيضا من خلال العنوان ، رغم أن الموضوع ، أو مناسبة الموضوع الشعري ، اغتيال المناضل الفلسطيني الكبير ، أبي علي مصطفى . إنه ينطلق من موقف فروسي ، وهو يقارب موضوعا فروسيا ، وهو يغني فارس الشهداء . إنه ينطلق ، بعبارة ، من مبدأ راسخ لا نكول عنه ، وهو أن فلسطين آتية لا ريب فيها / أبو علي يا فارس الشهداء تَوقفْ بُرهة عند نافورة الملتقى و استكن لوظيفة الحواس و ارفع كأسك عاليا في صحة النصر الذي يوصل إلى بهو القدس عاصمة و الخريطة برمتها دولة بسعة القصيدة . ( فارس الشهداء ) « في صحة النصر « ذلك هو الهدف الأقصى و الأقسى ، الذي لا يمكن أن يقر قراره إلا هناك ، في بهو ورحاب» المسجد الأقصى» مهما اشتط هذا الهدف في البعد ، وحالت دونه المتاريس و الحنادس . و ليس فارس الشهداء أبو علي هنا ، سوى شارة ورمز للأرض الفلسطينية المضمخة بدماء الأنبياء و الشهداء ، ومعبر و ممر إلى هذه الأرض . نقرأ في قصيدة ( الأرض) / [ الأرض كتاب أحرفه الإنسان و الأمكنة فهرس الصفحات و صفحة البرتقال وطن محتل يترقب نشيد الخلاص . « يافا» تغازل قمح العرصات و» الجليل» آيل بالحجر يوقظ شرارة الأطفال و» القدس» تختزل حلم العواصم في مسافات .. و «غزة» تجاهر بانهيار الليل .. والخريطة كل الخريطة ] .. ماثلة في شرفة الشهداء .] ( الأرض) . ألا ما أروع وأشجع هذه العودة الشعرية إلى « الأرض « ، لجعلها معزوفة الشعر و نوارته وناره . ما أروع و أشجع هذه العودة أو الاستعادة لأمكنة غالية ، كاد أن ينساها الشعر و الشعراء . ومع أن إدريس علوش ينتمي إلى الموجة الحداثية الثمانينية ، الولوع بالمغايرة و المغامرة و اختراق حمى اللغة وتجريب الأشكال ، و العزوف عن الهموم و القضايا الكبرى، وغموض اللفظ و المعنى ، جراء ذلك .. إلى آخر السمات و المظاهر الحداثية ، مع ذلك فإن لغة إدريس علوش الشعرية ، تبدو لغة صافية و شفافة ، عذبة و حريفة في آن. تنطلق مفرداتها وجملها و صورها كالسهام الرامحة ، تصيب هدفها على التو . إنها لغة طفلة و مشاغبة كصاحبها . و الأسلوب هو الشخص ذاته كما هو معلوم . لغة مجبولة بدواخل الشاعر و مبادئه و أشواقه و أحلامه . أعني أنها لغة شعرية صادقة و منسجمة تماما مع نفسها و موضوعها و رسالتها . و أكيد أنه حين يكون للشعر سؤال و قضية و رسالة ، فإن اللغة تغدو حجارة كريمة بين يدي الشاعر . فالتحية للشاعر ، و لفارس الشهداء ، ولوردة الشهادة ، فلسطين .