يبدو نجيب محفوظ معاصرا اليوم أكثر من أي وقت مضى، الروائي الذي مثل على نحو دال مرحلة صعود الطبقة المتوسطة المتنورة في المجتمع المصري، بوصفها أحد أهم إفرازات عصر النهضة العربية، كان معنيا قبل غيره برصد التحولات الكبرى في عمق النماذج البشرية وفي باطن المجتمع، كان الروائي ابنا وفيا لثورة 1919، وعاطفا كبيرا على حزب الوفد، الذي قاد نضال الشعب المصري لتحقيق الاستقلال الوطني، بالموازاة مع نضاله الداخلي ضد الحكم المطلق للملك فؤاد لإرساء دعائم ملكية برلمانية في وقت جد مبكر من تاريخ المجتمعات العربية. تفاعل نجيب محفوظ في أبرز أعماله، (القاهرةالجديدة، الثلاثية، قشتمر، بداية ونهاية، حضرة المحترم،...) مع فورة النقاش السياسي حول تعديل دستور 1923 الذي لقب بدستور الشعب، وصور خيبات الطبقة السياسية والمثقفين ومختلف شرائح الشعب المصري من الانقلاب حول هذا الدستور سنة 1936، التقط مسارات «التناوب» الذي أفرزته الانتخابات المتوالية، بين الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين وغيرهم، والانشقاقات النكدة التي أنهكت قوى حزب الوفد العتيد، وكانت نتائجها وخيمة على مسار الديموقراطية بمصر، والتقط تجارب إفساد الحياة السياسية بتدخل «السراي». هي إذن صور ومشاهد وشخصيات ودراما سياسية، نقرؤها اليوم، على الأقل في السياق المغربي، وكأننا نرى صورتنا بصيغة أخرى، الأخطاء ذاتها، والانكسارات بنفس طعم المرارة، والأمل المتقد في الصدور دوما؛ فندرك مجددا «وعي الاستمرارية» الذي حكم رؤية الروائي الذي سكنه للتاريخ الذي يترقرق أمام بصيرته. تعود بنا الذاكرة في هذه اللحظة بالذات إلى رواية «السمان والخريف»، وكيف بددت «ثورة يوليو»، غير المتوقعة (الانتفاضات والثورات هي دوما غير متوقعة)، أحلام سياسيين رهنوا مصير البلد بأحلامهم الفردية، رسموا خريطة المواقع وطرزوا الأمجاد، بناء على جدل وهمي مع شعب مفترض، لم يستفيقوا إلى بعد الرجعة العنيفة التي قوضت اللعبة الديمقراطية من أساسها الهش. ونستحضر نجيب محفوظ أيضا وإلى ما لا نهاية وقد بات تراث التنوير على المحك، بعد الصعود الكبير للحركات ذات المرجعية الدينية، المتطرفة أحيانا، حيث أضحى أدبه الخالد يؤول بحسب أحد الدعاة السلفيين، والراكبين الجدد على الثورة المصرية، باعتباره دعوة صريحة للدعارة والفساد الأخلاقي. قرب نجيب محفوظ إلى أذهاننا، كما لم يفعل أي روائي عربي، عبر شخصياته المفعمة درامية وتوترا، ومشاهده الساخرة، وفضاءاته الناهضة من غور القاع العميق، وحواراته الفلسفية العذبة، مكر التاريخ الذي يعيد تشكيل تجلياته على نحو مأساوي حينا، وبنفس هزلي أحيانا عديدة، فكأننا ننظر إلى ما كان مفترضا أن يكون حاضرنا الذي تجاوزناه نحو المستقبل، وقد تحول إلى حلقة أخرى في سلسة الدوائر المتكررة... لم يكن نجيب محفوظ في حبكه الروائي مشغولا بتأويل ما جرى ويجري سياسيا واجتماعيا فحسب، بقدر ما كان مهووسا برصد صداه في الداخل العميق لذوات الأفراد، لا أنسى أبدا تلك الفقرة المضيئة من الفصل الختامي في رواية السكرية حيث يقول السارد على لسان «رياض»: « إني أومن بالحياة وبالناس، وأرى نفسي ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الثورة الأبدية».