أثار قرار عودة الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة أسئلة كثيرة حول حيثيات ومبررات هذا القرار، وحول انعكاساته على صورة المشهد السياسي الوطني، وهي أسئلة مشروعة ولا شك، ولكن تبقى بعض الأجوبة عنها والتي تم تداولها بشكل واسع ، في حاجة إلى وضع النقط على بعض الحروف. ما مصدر قرار العودة إلى المعارضة؟ وما مصير الكتلة الديمقراطية؟ وأية معارضة سيمارسها الاتحاد بعد سنوات من التدبير الحكومي، وفي ظل وجود تقاطع كبير بين برنامجه وبرنامج الثلاثي الحكومي: العدالة والتنمية والاستقلال والتقدم والاشتراكية؟ 1- ليس خافيا على مروجي «التأويلات» الصادرة عن نوايا سيئة، أن مطلب عودة الاتحاد الاشتراكي للمعارضة ظل - ومنذ سنة 2002 - مطلب قطاع واسع من المجتمع ، وبخاصة من نخبه السياسية اليسارية، ومن طرف قواعد واسعة من الاتحاديين والاتحاديات، وذلك بفعل عجز الحزب عن التركيب الفعال والمثمر بين طرفي معادلة: تدبير الشأن الحكومي من جهة، والاحتفاظ بالروابط التنظيمية والإشعاعية والتأطيرية مع المجتمع «وقواته الشعبية « من جهة أخرى، وهي المعادلة التي وقف عندها التقرير التركيبي التقييمي للحزب سنة 2007، حيث وضع الأصبع على عوامل تراجع الحزب جماهيريا وانتخابيا، وتآكله داخليا، وبلور تصورات للنهوض بالأداة الحزبية وتفعيلها موازاة مع المشاركة الحكومية وإكراهاتها. إن عودة الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة اليوم، هي عودة إلى الذات، بقرار ذاتي داخلي، وقناعة جماعية تبلورت واتسع نطاق حامليها والمدافعين عنها، خاصة بعد أن أكدت نتائج انتخابات 25 نونبر 2011 وضعية التراجع التي صار إليها الحزب ، بعد أن كان في 2002 متصدرا لنتائج الانتخابات التشريعية. ويبقى من أقوى دوافع ذاك القرار، اعتبارات المستقبل السياسي للبلاد، والتي حددها بيان المجلس الوطني للحزب، و من بينها ضرورة ملء حزب ،ذو وزن سياسي، ورصيد تاريخي في المعارضة لهذا الموقع ، وذلك لأجل خلق توازن مؤسسي بين حكومة قوية منسجمة وذات سند شعبي، وبين برلمان بمعارضة مجربة ومحنكة وعارفة بإكراهات التدبير الحكومي من جهة، وبما تمليه المعارضة من واقعية وفاعلية وروح بناءة من جهة ثانية، وإضافة إلى ذلك فإن هذه العودة تشكل رسالة للمستقبل مضمونها: احترام إرادة الناخبين ونتائج صناديق الاقتراع، والدفع نحو الفرز الواضح للتشكيلات السياسية بحسب مرجعيتها، تجاوزا لما عرفه المشهد الحزبي منذ سنوات من توافقات هشة، ومن خلط والتباس بلغ حد الميوعة. إن هذه العودة لموقع المعارضة، ليست، كما يريد أن يصورها البعض، كعودة الابن الضال إلى أصله ! بعدما تاهت به السبل : فالتاريخ وحده كفيل بأن ينصف تجربة 13 سنة من المشاركة الاتحادية في التدبير الحكومي، وما حققته للمغرب من تراكم سياسي وتنموي إيجابي يصعب فهم اللحظة السياسية الحالية دون استحضاره: فشتان بين مغرب 1998 وبين مغرب 2011 على جميع المستويات، ولا مجال هنا لرصد الحصيلة الإيجابية لحكومة التناوب التوافقي على مستوى استعادة توازن الاقتصاد الوطني، وتعزيز الحريات العامة الفردية والنهوض بالأوضاع الاجتماعية لفئات واسعة من المجتمع . ومن موقع المعارضة، سيدافع الاتحاد الاشتراكي اليوم عن كل المكتسبات المحققة خلال تجربته الحكومية، ويدافع عن حمايتها وتعميقها بسياسات عمومية تستهدف محاربة الفساد وإقامة أسس العدالة الاجتماعية. إنها عودة واعية في شروط جديدة تماما، لأجل المساهمة الفعالة في تنزيل مقتضيات الدستور الجديد تنزيلا ديمقراطيا بشراكة مثمرة بين الأغلبية والمعارضة، ومن أجل إعادة الحيوية والجاذبية للمؤسسة البرلمانية، هي عودة لتأسيس جديد لموقع ووظيفة المعارضة وأدوارها في مغرب متحول، ليس هو المغرب الذي» تركنا « ساحاته منذ 13 سنة، كما أنها بموازاة ذلك عودة إلى الذات الحزبية التي أصابها ما أصابها من هون وتآكل ، بهدف إعادة الروح والقيم الاتحادية واليسارية لها، وتغذيتها بدماء جديدة قادرة على التفاعل الإيجابي، والمبادرة الخلاقة، والحضور القوي في ميادين صنع مستقبل المغرب على أرضية مكتسباته الهامة، وانطلاقا من انتظارات وتطلعات شعبه في القطع النهائي مع كل رواسب الاستبداد ، وتطهير كل مرافق الدولة والمجتمع من الفساد بمختلف أشكاله . تابع ص 1 2- أية معارضة إذن؟ ذلك هو السؤال، والجواب السليم عنه، هو ما يفضي إلى الغايات المرجوة من المعارضة في مغرب الدستور الجديد والتناوب الديمقراطي. لقد ترسخت في الذاكرة الوطنية «والمخيال الشعبي» صورة بطولية للمعارضة الاتحادية البرلمانية، برموزها ومواقفهم وصرخاتهم ضد سياسات والتفقير والقمع الشرس، في زمن كان الرصاص فيه ملعلعا والزنازين ممتلئة بالمناضلين والمناضلات. أصحاب «النيات السيئة» يستعيدون هذه الصورة بسخرية واستهزاء وتجن على رموزها، متناسين أن « الضرب على الطاولة» آنذاك، كانت له ضرورته الموضوعية لمواجهة سلطوية الحكم بمبدئية وشجاعة، كما كانت له تكلفته الباهظة في حيوات وأجساد مناضلي ومناضلات الاتحاد واليسار عموما. ليس حنينا لهذا الماضي المشرق يعود الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة، وكم سيكون المرء «عبيطا» أو «مستعبطا» للآخرين إن هو اعتقد أو حاول الإيهام بأن العودة إلى المعارضة اليوم هي لأجل استنساخ معارضة الأمس ! : * معارضةاليوم ستتأسس على خبرة وتجربة سنوات التدبير الحكومي، والمعرفة الميدانية بإكراهاته وعوائقه الموروثة والتي مازالت تقتضي إصلاحات عميقة في الإدارة وفي العقليات كذلك. * معارضة اليوم، ستكون مؤسسة على رصيد من المكتسبات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدستورية المحققة، هي معارضة التعزيز والتكريس والتعميق لها، لا مجرد معارضة المطالبة والاحتجاج. * هي معارضة ستضع أمام أعينها التقاطعات البرنامجية بينها وبين برنامج حكومة تضم حلفاء تجربة 13 سنة المنصرمة من التدبير الحكومي (حزبا الاستقلال والتقدم والاشتراكية) ويقودها حزب حاز على شرعية شعبية واضحة (العدالة والتنمية )،جعل من محاربة الفساد وإقامة حكامة جيدة ..الخ ، محور برنامجه الانتخابي. * هي معارضة، من خلالها سيتم استكمال ما كان الاتحاد الاشتراكي طليعيا فيه : الإصلاح الدستوري، وذلك من خلال المساهمة البناءة في تنزيل القوانين التنظيمية للدستور الجديد وفق تأويل ديمقراطي حداثي لها. إنها معارضة محايثة للتدبير الحكومي،ومتمايزة عنه في نفس الوقت عن طريق اضطلاعها بدور المراقبة والمحاسبة والتقويم والإرشاد من أجل تجنب كل انزلاق، وبغاية والأجرأة الفعلية والملموسة لمطالب المغاربة في مواجهة أخطبوط الفساد، وتصفية بقايا إرث الاستبداد. 3- ومن بين الأسئلة التي فرضت نفسها بحدة بعد إعلان الاتحاد الاشتراكي تموقعه في المعارضة سؤال: ما مصير الكتلة الديمقراطية؟ فقد ذهبت بعض الصحف إلى عنونة مقالاتها بعبارات تحمل الاتحاد الاشتراكي مسؤولية «نهايتها»، مثل العناوين التالية : «الاتحاد يطلق رصاصة الرحمة على الكتلة»، «الاتحاد يشتت الكتلة»، «الاتحاد يفجر الكتلة»، وبنفس اللغة الحربية اعتبرت بعض الصحف أن الاتحاد باختياره المعارضة «قلب الطاولة على بن كيران». لن أناقش هنا مساوئ هذه اللغة وسلبياتها على الوعي السياسي للمتلقي (فهذا موضوع آخر)، ولكن لابد من التذكير هنا بأن الذين يبكون اليوم الكتلة الديمقراطية، هم من سبق لهم ، ومنذ سنوات، أن نعوها وقرأوا الفاتحة عليها وأبنوها، فلم تكن الكتلة بالنسبة لهم سوى هيكل فارغ أو جثة هامدة، وبما أن الاتحاد الاشتراكي فوت عليهم شتيمة «الالتصاق بالكراسي» ،فلا بأس من تعويضها بأخرى !إنها حرفة الشتم التي ظلت تستهدف الاتحاد حتى وهو في عز انكبابه على إنقاذ البلاد من الهوة السحيقة التي أوصلها إليها الحكم التسلطي، والتقويم الهيكلي. إن الكتلة الديمقراطية التي تأسست في سياق سياسي وتاريخي انعطافي كبير، وبإرادة مشتركة بين أحزاب الحركة الوطنية الديمقراطية والتقدمية لأجل تجاوز مرحلة الاحتقان السياسي والانهيار الاقتصادي وتردي الأوضاع الاجتماعية لغالبية المجتمع، نجحت في تنفيذ معظم عناصر برنامجها السياسي وفي مقدمته الإصلاحات الدستورية (تعديل دستور 92 و 96 ثم دستور 2011) والسياسية، وطي صفحة الماضي في مجال الحريات وحقوق الإنسان، مما فتح أفقا سياسيا للتوافق بين الكتلة الديمقراطية والقصر، كانت حكومة التناوب سنة 98 إحدى ثمراته الرئيسية، والتي أنجزت ما أنجزت، وكان لها ما لها، وعليها ما عليها... وقد ظل الاتحاد الاشتراكي، وفيا قولا وعملا لبرنامج الكتلة ومشروعها الإصلاحي، حيث عاد لرفع مطلب الإصلاحات الدستورية، منذ خرق المنهجية الديمقراطية سنة 2002، وبقي متشبثا بهذا المطلب وهو في موقع الحكومة، فضمنه في قرارات مؤتمره الثامن سنة 2008، وفي مذكرة انفرادية إلى الملك سنة 2009 ، بينما كان حلفاؤه في الكتلة يعتبرون ذلك مطلبا في غير وقته، واعتبرته جل الأحزاب الأخرى مجرد مزايدة أو ابتزاز إلى أن جاءت حركة 20 فبراير في سياق «الربيع العربي»، فاستلهمت مطالبها من مقررات المؤتمر الثامن للاتحاد الاشتراكي حول محاربة كل أشكال الفساد، والمطالبة بالملكية البرلمانية. وسيسجل التاريخ بأن الاتحاد ظل متشبثا بروح وبرنامج الكتلة، رغم جمودها إلى أن تم تتويج ذلك بإقرار دستور جديد للبلاد في مستوى انتظارات موقعي المشروع الإصلاحي للكتلة الديمقراطية. والخلاصة مما سبق، أن الكتلة الديمقراطية كهياكل تنظيمية، وكامتداد جماهيري، وكفعل إشعاعي، لم تكن يوما قائمة حتى يتم « تفجيرها» أو «تشتيتها» .إنها إطار فوقي، ولكن روحه هي ما كانت تسري وتؤطر الإرادات الوطنية والديمقراطية المناضلة من أجل تجاوز ديمقراطية الواجهة نحو ديمقراطية دولة المؤسسات، ودولة الحق والقانون. إن الكتلة الديمقراطية كانت وستظل، قيما ومبادئ وتصورا لمغرب الغد، ستوجه الفعل السياسي لمكوناتها، سواء مجموعين داخل الحكومة أو موزعين بينها وبين المعارضة البرلمانية، فروح الكتلة لم تمت، وستنبعث مجددا، وبصيغ أخرى ،مادامت الحاجة الموضوعية إليها مستمرة، وما دامت تلك المبادئ والقيم جزءا صميميا من «المشترك الوطني والديمقراطي لمغرب اليوم.» ..تلك نقط على الحروف ..وكم من حروف أخرى تنتظر ..