مثل هذا اليوم منذ تسع وأربعين سنة زار الملك مقر وزارة الداخلية للوقوف على عملية إحصاء أصوات مؤيدي الاستفتاء وسرعان ما غادر مقر الوزارة بعد ما اطمأن على «سلامة» و«نزاهة» عمليات الاستفتاء على الدستور. وحينئذ شعرت بالعطش، فبحثت عن مكان أجد فيه ماء أو عصيراً ، فإذا بي، بدون قصد، أفتح باب غرفة كان فيها اكديرة محاطاَ ب«علية القوم» من أصحابه الرباطيين يفتح قرعة شامبانيا في لحظة سعادة تأكدوا بأنهم حققوا النصر وكأنهم خاضوا المعركة مع المعارضة في شروط متكافئة. في مثل هذا اليوم7 دجنبر 1955 ، قدم امبارك البكاي إلى محمد الخامس رحمهما الله، أول حكومة وطنية ثلاثة أسابيع بعد عودة الملك إلى عرشه يوم الأربعاء 16 نونبر 1955 . وفي مثل هذا اليوم جرى الاستفتاء على دستور الجمعة 7 دجنبر 1962 ، حيث ظل المغاربة ينتظرون سبع سنوات بعد استعادة السيادة ليكون لدولتهم قانون أساسي يحدد علاقة الحاكمين مع الشعب. ولا يحق القول بأن الكل كان يتطلع إلى اليوم الذي يكون لدولتنا دستور، إذ أن السواد الأعظم مع الأسف لا يميز بين ما إذا كان لنا أم لا دستور يحدد طبيعة علاقة المواطنين مع السلطة الحاكمة أو بالأحرى السلطات المتحكمة، وفئة قليلة من النخبة السياسية كانت تتطلع بشوق إلى اليوم الذي سيكون فيه للمغرب حكم ديمقراطي بعدما استعادت بلادنا استقلالها وسيادتها. وكان أبو الأمة محمد الخامس قد قال في خطاب العرش سنة 1951 بأن «أفضل حكم تعيش فيه بلاد تنعم بسيادتها هو الحكم الديمقراطي». ومرت إحدى عشرة سنة على خطاب 1951 وسبع سنوات على كوننا بدأنا ننعم بالسيادة وكنا يوم (الجمعة 7 دجنبر 1962) ما زلنا بدون دستور، أو بالأحرى دولة بدون قانون، حالة كانت عليها بلادنا في عهد الاستعمار يوم زار المغرب محمود عزمي فأطلق عبارة شهيرة لوصف الوضع ببلادنا: «دولة بدون قانون». وها هو المغرب في مثل هذا اليوم منذ تسع وأربعين سنة يحاول الخروج من نفق «دولة بدون قانون»، ولهذا استدعي المغاربة ،رجالا ونساء، ليقولوا نعم أم لا للدستور المعروض على الاستفتاء. الاتحاديون قرروا مقاطعة الاستفتاء على الدستور ... «الممنوح» تولى الفقيد العزيز عبد الرحيم بوعبيد صُحبة عبد الرحمان اليوسفي ، مهمة شرح الفرق بين دستور ممنوح ودستور آخر يتم تحريره من طرف أعضاء مجلس تأسيسي كهيئة تشريعية تمثل الشعب الذي يكون قد انتخب أعضاءها. حملة توضيح موقف الاتحاديين من الاستفتاء على الدستور لم يشارك فيها المهدي بن بركة بحضوره الجسدي. وربما كان هذا من أهداف من قرروا اغتياله ثلاثة أسابيع قبل موعد الاستفتاء وهم: أعوان أوفقير من الجلادين بدار المقري نفذوا جريمة اغتيال السي المهدي وفشلوا في ذلك ولكنه ،رحمه الله، أصيب بجروح خطيرة استوجبت أن يتوجه إلى ألمانيا للعلاج. السي عبد الرحيم والسي عبد الرحمان لم يكونا وحدهما في المعركة تلك الأيام: بطل الريف بن عبد الكريم بعث من القاهرة رسالة: «ما هذه إلا لعبة هدفها جعل شعبنا مكبلا بعدما كافح ضد الاستعمار ليعيش حراً طليقاً» . شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي حضر مهرجان المقاطعة بمدينة فاس: «إن كلمة بوعبيد كافية ومع ذلك لا بأس من أن أقص عليكم حكاية الأسد، الذئب والثعلب الذين اصطادوا في الغابة حماراً ، غزالا وأرنبَ ، طلب الأسد من الذئب بأن يقترح طريقة لتوزيع الغنيمة« فقال: «الحمار لك والغزال لي والأرنب للثعلب» عندئذ يقول شيخ الإسلام وهو يحاول إضفاء جو المرح على تجمع سياسي: «عندئذ انقض الأسد على الذئب فأرداه قتيلا ثم طلب من الثعلب أن يدلي برأيه فقال: «الحمار لغذائك والغزال لعشائك والأرنب وجبتك ما بين الغذاء والعشاء»، فقال الأسد للثعلب: «من أين لك بهذا الحكم (العادل)» ليكون الجواب على الفور: «من رأس الذئب». إلى جانب بطل الريف وشيخ الإسلام رحمهما الله، قال أول وزير للعدل في مغرب الاستقلال الأستاذ الراحل عبد الكريم بن جلون في مقال بجريدة التحرير: «الرعاية الأبوية ترفض اعتبار الشعب راشداً قصد جعله تحت حضانة ضيقة مشفوعة نفسها بحق الحراسة والتأذيب». كانت هذه المعركة خيطاً فاصلا بين من يرفض الاستسلام والخضوع لسلطة الملك الحسن الثاني رحمه الله ومن اختاروا مسايرة الحسن الثاني بدون قيد ولا شرط، ومن هؤلاء ، مع الأسف، زعيم التحرير علال الفاسي رحمه الله. بعد شهر ستقول هيئة الإذاعة البريطانية من لندن يوم الخميس 3 يناير 1963 بأن علال الفاسي، امحمد بوستة وامحمد الدويري قدموا استقالتهم من الحكومة التي يرأسها الحسن الثاني وسيشرح زعيم التحرير رحمه الله أسباب الاستعفاء: «لم يكن معقولا أن نقبل مواصلة وجودنا في الوزارة بعد ما جرى ما لا يتفق مع شعورنا ونظرياتنا» . وهذا ما علق عليه بجريدة التحرير (9 يناير 1963) أبو عصام (المرحوم الدكتور عابد الجابري) في ركنه اليومي «بصراحة»: «أملنا أن يكون الابتعاد عن الحكم فرصة لإخواننا الاستقلاليين، ليقوموا بنقد ذاتي شامل يمكنهم من إحصاء أخطائهم وإنصاف غيرهم». المرحوم عابد الجابري يقصد بمن يجب إنصافهم أولا شيخ الإسلام الذي وصفه السي علال في مهرجان سيدي معروف ب «زعتر فاس» وثانياً عبد الرحيم بوعبيد الذي اعتبره السي علال ذلك اليوم «زعتر سلا». هذه وقائع اقترح على من يشك في صحتها بأن يعود إلى جرائد ومختلف مطبوعات تلك المرحلة ليتأكد من المزيد من حقائقها وتفاصيلها المثيرة. في تلك المرحلة تأكد أن كل ما قيل عن سوء علاقة علال الفاسي مع محمد حسن الوزاني «ناتج عن خلافات مذهبية»، وأن المسألة ليست نزاعات شخصية، وكل ما قيل هكذا لا أساس له من الصحة، لأن السي علال أيد الدستور بينما عبر الوزاني عن معارضته للدستور الممنوح وأدى الثمن. كان هذا في نونبر 1962 وبعد ستة أشهر ترشح سيدي علال بفاس كرئيس على حزب الاستقلال بينما ترشح الوزاني بوزان تحت راية الفديك حزب اكديرة وزير الداخلية (في انتخابات ماي 1963). بقى لي أن أحكي للقراء قصتي مع اكديرة وقرعة الشامبانيا: في مثل هذا اليوم منذ تسع وأربعين سنة زار الملك مقر وزارة الداخلية للوقوف على عملية إحصاء أصوات مؤيدي الاستفتاء وسرعان ما غادر مقر الوزارة بعد ما اطمأن على «سلامة» و«نزاهة» عمليات الاستفتاء على الدستور. وحينئذ شعرت بالعطش، فبحثت عن مكان أجد فيه ماء أو عصيراً ، فإذا بي، بدون قصد، أفتح باب غرفة كان فيها اكديرة محاطاَ ب«علية القوم» من أصحابه الرباطيين يفتح قرعة شامبانيا في لحظة سعادة تأكدوا بأنهم حققوا النصر وكأنهم خاضوا المعركة مع المعارضة في شروط متكافئة. حاولت الهروب ولكن اكديرة قال: «تفضل يا عبد اللطيف، أنا أعرف أنك الآن حصلت على المادة الصالحة لمقالك المقبل في التحرير». كان جوابي بسيطاً : «اطمئن يا سي أحمد سترى بأنني لست من هذا الصنف من الصحفيين».