الآن، وقد انتهى الفصل الأخير من أول انتخابات تشريعية في ظل الدستور الجديد، والتي حملت حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية إلى قيادة الحكومة المنتظر تشكيلها قريبا، يمكن للمرء وللمحلل أن يضع اليد على الحقائق والمعطيات التي أفرزتها أو أعادت تأكيدها، والتي لا محيد عن أخذها بعين الاعتبار كمنطلقات في قراءة الحقلين السياسي والحزبي في علاقة مع الدولة من جهة، ومع المجتمع من جهة أخرى . فما الذي أكدته وكرسته هذه الانتخابات؟ وما مظاهر وعناصر الجدة فيها؟ أولا: كان الهاجس المقلق والرهان الجماعي هو نسبة المشاركة الشعبية، وقد ابتهج جل الفاعلين والمحللين والملاحظين لنسبة 45,40% التي كسرت النسبة الكارثية لانتخابات 2007. وإذا كان من الطبيعي اعتبار هذه النسبة مقبولة ومعقولة كما قيل مرارا وتكرارا في مختلف التعاليق، فإنها رغم ذلك تبقى دون المأمول إذا ما قارناها، ليس بنسبة تشريعية2007 ، وإنما بعدد الناخبين المسجلين وغير المسجلين في اللوائح الانتخابية ، مما يؤكد حقيقة الحاجة إلى قاعدة شعبية واجتماعية لتطور الديمقراطية المغربية التمثيلية. إن مهمة تصالح المغاربة مع السياسة والتزامهم بمواعيد الاقتراع لانتخاب المؤسسات التمثيلية، مازالت مهمة مركزية في المرحلة الحالية والمقبلة. وعليه فلابد من الحذر من ذاك الارتياح والفرح المبالغ فيهما بنسبة 45,40% المحققة، وأيضا من التبريرات الواهية لها، كتلك التي تعتبر هذه النسبة عادية لأنها عالمية تتحقق في الديمقراطيات العريقة والناضجة، إنها مقارنة لا تاريخية ولا علمية: فشتان بين مجتمعات مشبعة بالديمقراطية وأشكال مختلفة من صنعها والمشاركة فيها، ومتخمة بالحداثة السياسية، وبين مجتمعات ما زالت تتلمس طريقها نحوها وسط بحر من الفقر والأمية وهيمنة النزعات المحافظة والتقليدانية. وفي كل الأحوال فإن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات في ظل التجاذب السياسي والاحتقان الاجتماعي اللذين جرت فيهما ، تشكل دليلا على تشبث المغاربة بالخيار الديمقراطي وبداية تصالح مع صناديق الاقتراع رغم الدعوات البئيسة إلى المقاطعة .. ثانيا: أكدت هذه الانتخابات أهمية دور الدولة وأجهزتها في توفير شروط النزاهة والمنافسة الشريفة، فرغم بعض السلوكيات المخلة بأخلاقيات المنافسة الشريفة ( استعمال المال، وأشكال مختلفة من الضغوط على الناخبين في عدة دوائر الخ )، فقد سجلت مختلف تقارير المنظمات الحقوقية وكذا بعض الملاحظين، تقدما كبيرا على مستوى نزاهة وشفافية هذه العملية الانتخابية، وتواري العديد من أشكال التزوير المعهودة. إن تخلي الدولة عن دور المحايد السلبي، واضطلاعها بالحياد الإيجابي كان مطلب القوى الديمقراطية بالبلاد، وها هو يثبت نجاعته ومردوديته السياسية والمعنوية على مصداقية العملية الانتخابية ونتائجها . ثالثا: أعادت هذه الانتخابات التأكيد على حاجة الحقل الحزبي إلى إعادة نظر جذرية في هيكلته، فهو زائد في عدده عن الحاجة، وهذا ما يتضح من خلال النتائج المحصل عليها: ف 13 حزبا خرجت بصفر مقعد، و 10 أحزاب لم تصل مقاعدها إلى عدد فريق برلماني واكتفت جميعها ب 17 مقعدا ! فيما آلت بقية المقاعد إلى ثمانية أحزاب. لقد بات الفرز في طريقه نحو الوضوح أكثر، وأضحى من المفيد للتقدم الديمقراطي أن تقوم الأحزاب "الصفرية" والمناسباتية بتقييم صريح وصادق مع الذات، واتخاذ قرار جريء يتعلق بوجودها ذاته وأفقه التنظيمي. رابعا: فشل التحالف القبلي الثماني في قطع الطريق على صعود حزب العدالة والتنمية واكتساحه للمدن الكبرى كاستراتيجية تأسس من أجلها حزب الأصالة والمعاصرة، فقد دبت تناقضات بين مكوناته (جي 8) أثناء الحملة الانتخابية، وصلت إلى حد الشجار بالسلاح الأبيض في إحدى دوائر مراكش، وتظلمت الحركة الشعبية من سلوك الأحرار، كما فضحته القيادية حليمة العسالي التي قالت: "هذا التحالف لا يصلح لنا في أي شيء.".. ولم يحصد ألجي 8 في النهاية سوى الرتبتين الثالثة للأحرار والرابعة للبام بفضل استثمار الاحتياط الانتخابي الترحالي، والاستعانة بالأعيان "وقرصنة " مرشحي الحركة الشعبية بشكل خاص. إن الخاسر الأول في تشريعية 25 نونبر 2011، هو استراتيجية التحكم والإقصاء التي قادها حزب الأصالة والمعاصرة، الذي كان المرشح الأول للفوز بهذه الانتخابات بعد هيمنته على الانتخابات الجماعية في 2009، ولكن كانت للشارع كلمة الفصل التي أدخلته في عزلة لم يجد لها من مخرج غير التحالف الثماني، كما شهد على ذلك عضو المكتب الوطني الحبيب بلكوش، مثيرا عليه بصدقه، غضب الأمين العام بيد الله ، الذي لم يتردد في "التبرء" من شهادة "رفيقه " علنيا. إن المغاربة صوتوا يوم 25 نونبر على التغيير، وضد كل من عاث فسادا في الممارسة السياسية والحزبية، فبوأوا حزب العدالة والتنمية الصدارة بأزيد من ربع المقاعد، كما صوتوا على الاستمرارية في تعزيز المكتسبات والإصلاحات المحققة، حيث حازت الكتلة الديمقراطية على 117 مقعدا . وبناء عليه، تعد انتخابات 25 نونبر2011 تاريخية حقا، سواء بسياقها (التحولات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي+ الدستور الجديد) أو أجوائها (نزاهة وشفافية أكبر)، أو نتائجها (نهاية الفزاعة الإسلامية)، حيث سيخوض المغرب "تناوبا ثانيا " مع حكومة جديدة بقيادة جديدة ،عليها ربح رهان التنزيل الديمقراطي للدستور بشراكة مع باقي مكونات الحقل السياسي، ورهان التجاوب الفعلي مع مطالب الشارع بما يحقق الكرامة والعدالة ويسقط الفساد .. ومن حق القارئ علي أن يتساءل هنا: وماذا عن الاتحاد الاشتراكي ونتائجه وموقفه من المشاركة في حكومة رئيس الحكومة الجديد عبد الإله بنكيران؟ سأوجز الحديث هنا، مادام له وقت مناسب قريب جدا للتفصيل فيه، وأقول: إن النتيجة التي حصل عليها الحزب جاءت لتكرس وضعية التراجع التي دخلها منذ انتخابات 2007، مما يضع على عاتق جميع الاتحاديين أولويات مستعجلة، تتعلق بإعادة التأسيس للأداة الحزبية، والتوضيح للخط السياسي والهوية الفكرية، وهي الأولويات التي ظلت معلقة منذ 2007 رغم كل ما أنجز من تصورات وأدبيات لأفق التجاوز للأزمة (التقرير التركيبي + مقررات الندوة الوطنية حول التنظيم. إن الحزب الذي لم يستطع حل معادلة : تحمل مسؤولية التدبير للشأن الحكومي، والحفاظ على مواقعه في المجتمع وارتباطه "بالقوات الشعبية " ، مفروض عليه ،قبل الانهيار الشامل ،أن يختار اليوم: إما التشبث بالموقع الحكومي بما سيترتب عن ذلك من تعميق للأزمة التنظيمية ومزيد من التآكل، وإما بلورة وصياغة خطة شاملة لتحديث وتجديد الحزب واستعادة ارتباطه بالمجتمع. لقد كان اعتبار المصلحة العليا للبلاد وراء كل مشاركات الحزب في الحكومة منذ 1998، والآن، وبعد أن أخذ المسار الديمقراطي المغربي طريقه نحو البناء السليم من خلال الدستور الجديد الذي لعب الاتحاد الاشتراكي الدور الريادي في المطالبة به ، وبعد انتخابات جاءت "بتناوب ثان" جديد، ألا يمكن القول بأن مصلحة البلاد العليا تقتضي اليوم عدم مشاركة الاتحاد في هذه الحكومة؟ أليس هو المؤهل لقيادة معارضة برلمانية مطابقة لروح الدستور، والاضطلاع بالمهام الدستورية الجديدة للمعارضة البرلمانية ؟ هذه أسئلة من بين أخرى ،لاشك أنها ستؤطر نقاشات المجلس الوطني للحزب ..وللحديث صلة.