أصدر الباحث والمترجم الأدبي المغربي رشيد بنحدو كتابا نقديا جديدا حمل عنوانا ملغزا "جمالية البين- بين في الرواية العربية" (منشورات مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب ؛ الطبعة الأولى 2011). وقد ضم هذا الكتاب النقدي أبحاثا ودراسات في مجال الرواية العربية والمغربية ( سواء منها المكتوبة باللغة العربية أو المكتوبة باللغة الفرنسية)، سبق للمؤلف أن أنجزها في مناسبات مختلفة، قبل أن يقرر نشرها في كتاب واحد بعد أن انتبه، لشدة استغرابه، إلى أن هذه الدراسات والأبحاث تشترك جميعها، في إبراز وبلورة منظور جمالي بعينه لم يفطن له سلفا، وسمه بجمالية "البين- بين" في الكتابة الروائية. وسنحاول تقديم قراءة لهذا الكتاب النقدي، نقارب من خلالها طبيعة المنظور البيني، مسائلين تعدد إشكالاته و تنوع مستويات تحليله وإضاءته لأبعاد جمالية وإثيقية تقيم، إقامة التمايل والتأرجح ، في صدوع النص الروائي. وسنبدأ بالسؤال الأخير الذي أنهى به الدارس كتابه النقدي الجديد "جمالية البين- بين في الرواية العربية": «مرة أخرى، هل أكون كنت في مستوى ما يتطلبه التحليل النصي لجمالية البين بين من جدة وابتكار؟ هل يكون ارتواء متخيل النصوص الروائية التي تفانيت في افتحاصها بمتخيلي الشخصي قد كيف خطابي النقدي على نحو يجعله متسما ببعض الطرافة والفرادة ؟». (ص 377.) يترجم السؤال، في ما يبدو، هاجسا لدى رشيد بنحدو؛ هاجس أن تكون محاولته النقدية متصفة بالجدة والابتكار، وموسومة بالفرادة والطرافة. وهو هاجس يحذو كل ناقد أدبي حقيقي يحاول أن ينأى بكتابته عن ضحالة "التمارين النقدية" التي طفحت بها دراسات مغربية وعربية في العشريات الأخيرة (تمارين جعلت النصوص الأدبية حقولا مستباحة لتطبيقات فجة للمفاهيم والأدوات التحليلية)، ويبتعد بها عن نسخ تجارب نقدية أخرى لا تنكشف، بزعم العلمية والموضوعية، عن ذات الناقد، عن صوته ولغته المائزين، عن جسده الراغب ومتخيله الجامح؛ ناقد لا يتوارى خلف مفاهيم بكماء، أو خلف ما قد نصفه ب "صوت النقد الغفل"، بل يخاطر بالكشف عن ذاته في ثنايا ملفوظه النقدي، عازما على أن لا يحتفظ لنفسه بدور ثانوي وتابع، دور الشارح، أو المفسر، أو الواصف، بل ينيط بنفسه دورا أهم و مهام أبعد، مآلها أن يصبح عينه ذات كتابة لا يقل نقدها إبداعا عن الكتابة الإبداعية بالمعنى الحصري (ربما يمكن الزعم بهذا الصدد أن رشيد بنحدو يطمح أن يكون منتميا إلى سلالة "النقاد الكتاب"، أمثال بلانشو، بارت...)، ما يجعلنا ، بالتالي، نفترض أن كتاب " جماليات البين- بين في الرواية العربية" يكشف عن ناقد لا يتردد في بصم أدائه النقدي برؤيته ولغته، بجسده ومتخيله، بيقينه الهش وحيرته المكينة، منزعه إزاحة الحواجز الوهمية ، المانحة لاطمئنان مريب، بين تلفظه وملفوظه النقديين. جدة الأطروحة النقدية تتميز مقاربة الكتاب بالجدة، وهي لذلك أطروحة خلافية، "غير مسبوقة"، وإن بدت سمات المنظور البيني متوافرة بشكل متناثر وجزئي، في كتابات نقدية وفلسفية سابقة، أحال الناقد إلى بعض مصادرها (بارت، جنيت، تودروف، بلانشو، ديريدا، إدغار موران..الخ) . بيد أن جدة الكتاب تكمن أساسا في محاولة منح هذا المنظور "اكتمالا" منهجيا، وقدرة إجرائية على استشفار النص الروائي وتحليل مكوناته الجمالية. يطمح الكتاب، بإجمال، لتقديم منظور نقدي فريد، وعرض مبحث أدبي ينفصل، وإن باتصال (كما سنلاحظ قريبا)، عن المقاربات السائدة. قاد المنحى الخلافي للكتاب، سواء عند الاستهلال أوفي الخاتمة، وأيضا بشكل متواتر في المتن التحليلي، إلى إبراز خصوصية هذا المشروع واختلافه عما عداه. انعكاسا على ذلك، بدا الناقد بدوره، ذاتا انفصالية لا تسكن بخدر إلى المتداول والمتشابه النقدي. لذلك لم تكف عن ارتياد الأحياز النصية التي تحفل بالمفارق، وتطفح بالمتناقض والمتغاير والمتنافر، رهانها في ذلك تأكيد قدرة المقاربة البينية على تناول هذه المظاهر وإضاءة جوانبها. إنما كيف يمكننا توصيف هذه المقاربة و رسم بعض معالمها؟ إنها بدءا مقاربة دينامية للنص الأدبي، الروائي بخاصة. من منظورها، وخلافا لغيرها من المقاربات، كلاسيكية أو حديثة على السواء، لا يبدو النص الأدبي تجسيدا لمقولات أو تصنيفات سابقة عليه ، ولا يبدو، كذلك، مفعول علاقات ثابتة وقارة بين مكوناته المختلفة (المقاربات اللسانية والبويطيقية للنص الأدبي). بل يبدو النص دينامية مفتوحة، سيرورة حية، مشرعة على المختلف والمغاير والمباغث . من ثم، حرصت الذات الناقدة على رصد عدد من العناصر المفتقة لهذه الديناميات في نصوص بدا بعضها أشبه برمال متحركة، أو بدا مغمورا بصبيب ماء هادر، أو مستندا إلى توازن هش، ما إن يظهر قدرا من التماسك والتوازن حتى تعتريه شقوق تفقده توازنه و تهد تماسكه. لن يكون بوسعنا تعداد العناصرالنصية المولدة لهذه الديناميات، لكونها عناصر غير نهائية ( كتاب بنحدو لا يزعم استنفاذها)، فهي ليست مقترنة بنمذجات بلاغية أو بويطيقية، بل هي موصولة بسيرورات كتابية خلاقة، يصعب التنبؤ سلفا بطبيعتها وبمآلاتها، أو تخمين درجات تفاعلها وحدة تجاذبها. لكن بوسعنا أن نلاحظ أن بعضها كان موضوع مباحث نقدية سابقة. يتعلق الأمر بمكونات من قبيل، العتبات النصية باعتبارها واصلة بين المقول وغير المقول، العلاقات بين السيرذاتي و التخييلي، بين الخطاب الحكائي والخطاب الميطاحكائي، بين النصوص المتمايزة (التناص)، بين النظام والسديم، بين الرواية واللارواية، بين جنس الرواية وأجناس فنية.. إلخ بيد أن المبحث البيني وضع هذه المكونات، وغيرها، ضمن سياق جديد، أضحت تردد معه رجعا مختلفا، ورنينا مغايرا. إذ قادت هذه المكونات، من خلال رصد تقاطباتها الحادة، إلى إبراز النص الروائي مجالا يعتمل فيه التناقض والتنافر، وفضاء مخترقا بخطوط متضاربة، مائلة وفالتة، وليس معبرا مستويا ومؤمنا لخطوط ثابتة ومستقيمة. بالتالي، لم يفض تحليل هذه المكونات إلى رسم تماسك أو استعادة انسجام النص الروائي، بل أفضى بالأحرى إلى كشف صدوعه وكسوره وتأرجحه المزمن بين المثيل والمختلف. ثم إن المقاربة البينية تبدي النص الأدبي كذلك فضاء مشحونا بالتوترات والتمزقات، منبثا للقلق المستكين، وللصخب العنيف (مثال رواية "أغادير" لمحمد خير الدين )، بل وفضاء تختل فيه أسباب النظام، اختلالا يكاد يشفي أحيانا على الخلل التام والفوضى العماء (الكاووس). من هذه الزاوية، لم يعد النص الروائي نتاج ما تصبو إليه النمذجات التي يهجسها إرساء هدنة بين المتنافرات والمتناقضات، أو يشغلها استتباب أمن نصي يكفل، في أفضل الأحوال، تعاقبا سلميا بين الشئ وضده، أو يبغي صهر المختلفات في كلية مفارقة و متناغمة. انعكاسا على هذا كله، تصير القراءة النقدية، وهي تخوض في هذه الأدغال الموحلة، والوهاد الزلقة، قراءة مستكشفة، مخاطرة، متوثبة، لا يمثل المفهوم النقدي بالنسبة لها ، فنارا يضئ السبيل، أو معلما يهدئ من روع من غامت طريقه وضاع خطوه. بل هو بالأولى أداة استكشافية، لا تتحدد وظيفته فيما يقرر أو يملي سلفا، بل بما ينطوي عليه من قدرة على اختبار ذاته وهو يخوض بجراءة في شعاب النص ومهاويه. ويعد المفهوم بالنسبة للذات الناقدة، كذلك، أحد امتداداتها الجسدية والتخيلية، لكون العلاقة النقدية بالنص أضحت في كثير من مظاهرها تماسا حسيا واحتكاكا لذيا (الكتاب يحيل مرارا إلى " لذة النص" لبارت)، وكذا تفتقا تخيليا، باعتبار هذه العلاقة أيضا مجالا يلتقي فيه متخيل الناقد بمتخيل النص الروائي (ص 376). من هنا، يجدر بنا التساؤل عن الوضع المفهومي (الأفهومي) للبين- بين. الأكيد أن البين- بين ليس مفهوما بالمعنى المتداول، بل ينبغي اعتباره بالأحرى "حالة" نصية، طاقة نصية، حيزا أو لا حيزا نصيا؛ إنه فتق، وصدع، وفراغ، وأرض خلاء لا تخضع لقانون التملك ؛ وهو الموقع- اللاموقع الذي يفشل سلطة المفهمة إن هي انقادت لذلك بإرادة يحذوها الحصر والفرز والتحديد. أما الدنو من البين- بين النصي، فيكون باستعارة لغة المجاز أو باجتراح مفاهيم من نوع خاص، مفاهيم قابلة للتغاير والتباعد والتحلل السريع من مزاعم الاكتفاء. أما تحقق البينية في النص الروائي، فيتم بدرجة التقاطب، وحدة التوتر اللذين يعتملان في المسافة الفاصلة بين العناصر المتنافرة والمتناقضة. وقد ميز بنحدو بين نصوص تذهب بهذا التقاطب شأوا بعيدا، يدني بعضها من تخوم الكارثة والسديم والعدم (نصوص أحمد المديني، محمد خيرالدين، عمران المليح، إدوار الخراط)، فيما تظل نصوص أخرى تشتغل بدينامية أقل حدة، وبتوتر أخف وقعا، لا يحاذيان جرف الهاوية، هاوية الكارثة والسديم والعدم. من هنا، يمكن القول أيضا، أن البينية ليس جوهرا نصيا، بل فاعلية نصية، فهي تنتمي إلى مجال الصيرورة النصية، وليس إلى مجال الكينونة النصية. إنها، إذن، فاعلية تؤشر على حيوية النص الروائي، وعلى كفاءته الفعلية و قدرته العملية على استدراج المتنافرات، واستقطابها، وصهرها في دوامة قد تحاذي تخم الدوخة والتلف. لقد انتدب بنحدو نفسه لارتياد أحياز البين بين، معبئا طاقاته التحليلية، وحدوسه النقدية، وكذا دفقاته الحسية، وكفاءاته التخيلية، ومعارفه النصية الواسعة ( تلك التي أدهشتنا مثلا بعثورها على مكامن التناص بين رواية عمران المليح "ألف عام بيوم واحد " وبين رواية الروائي الإيرلندي جويس "يولسيس") فضلا عن خبراته الحياتية ( صداقاته التي تضئ رغما عنه قراءاته الروائية). وهي جميعها مظاهر انكتابه المسترسل في ملفوظه النقدي، وانخراطه الحميم في تشكيل ملامح هذا الملفوظ وبلورة معالمه. النقد المرح نضيف إلى هذا كله، مظهرين آخرين، ينمان بدورهما عن هذا الانخراط الدؤوب للذات الناقدة في ملفوظها النقدي: فهي ذات لا تتوانى عن اجتراح مفاهيم نقدية، سواء عبر استحداث بعضها لوسم مجالات بكر تحتاج لمفاهيم دقيقة تحدد طبيعتها وتبرز معالمها (مثال المفهوم الأجناسي"المتخيل السيرذاتي)؛ أو عبر تعريب مفاهيم نقدية غربية، تعريبا ينم عن جدة وأصالة originalité وطرافة و ينم كذلك عن تجنب الركون الكسول إلى الترجمات الرائجة و المتداولة (مثال: الاستيقاع، الاستخيال، الاختئاف ...). هذا الاجتراح للمفاهيم النقدية سواء عبر الاستحداث أو عبر التعريب، يشف عن ذات ناقدة ترغب في أن تنحث لنفسها لغة نقدية خاصة بها، تنماز بها عن محيطها النقدي. وإذا كان أقصى طموح الكتاب استحداث لغات إبداعية تنفصل بهم، كالجزر النائية الصغيرة، عن سديم اللغات المتداولة، فإن صنيع الناقد يبدو هنا أيضا، سعيا إلى استحداث لغة نقدية، خاصة به، تفصله عن سديم اللغات النقدية المتداولة، مغربيا وعربيا. التمظهر الآخر، غير الأخير، لانكتاب التلفظ النقدي في الملفوظ النقدي، هو الطرافة وحس الهزل اللذان يقود بهما بنحدو عمله النقدي. يلجأ إليهما للتخفف أحيانا مما قد يبدو حذلقة مفاهيمية، أو لبصم قوله النقدي بدعابة تبتعد به عن الثقل والسماكة والتخمة. و قد استشعرت شخصيا هذه الخفة التي حملتني على قراءة كتابه دفعة واحدة، كما لو أني كنت بصدد قراءة رواية شائقة. إنها خفة متصلة بلا شك بعلم مرح أنجب كتابة نقدية غضة، حية، لماحة، متوفزة ووثابة، ستضفي لا محالة على النقد المغربي والعربي ألقا وعمقا افتقداهما لزمن طويل. * قدمت هذه القراءة بحضور مؤلف الكتاب ضمن فعاليات المعرض الجهوي للكتاب المنظم من طرف المديرية الجهوية للثقافة ببني ملال يوم 28/10/2011.