التقيتُ أكرم مسلم قبل أربعة أعوام باعتباره صحفيا بجريدة الأيام الفلسطينية جاء إلى بروكسل لتغطية فعاليات موسم «مسارات» الفلسطيني. كان يرتدي قسماتٍ بالغةَ الجدِّية ويعمل بهمَّة موظف مثابر. لم أكن أخمِّن لوهلةٍ أن هذا الرجل كان فائزًا لتوِّه بجائزة القطان الفلسطينية للكاتب الشاب 2007 عن روايةٍ لا تعْدَم خفَّةً في الدم والرّوح. (سيرةُ العقربِ الذي يتصبَّبُ عَرَقًا) التي ستصدر بعد عام عن دار الآداب رغم أن توزيعها ظلَّ محدودًا فلم أسمع عنها قبل العام الماضي على إثر صدور ترجمتها الفرنسية عن دار (أكت سود) وبرمجة أكرم مسلم للمشاركة في فعاليات دورة العالم العربي الأدبية بالمركز الثقافي لي هال دو بروكسل. وُجِّهت الدعوة إلى أكرم مسلم منذ فترة طويلة. لكن الزيارة لم تتحقَّق إلا بمشقّة كما لو أن الأمر يتعلَّق بفصلٍ يشدُّ الأنفاس من روايةٍ لم يكتبها بَعْد صاحب العقرب الذي يتصبَّبُ عَرَقًا. وإذا كان العقرب من الهوامِّ التي، رغم فائض السمِّ، لا تتوَّفر على مسامٍّ أصلًا ولا تعرف بالتالي للعرق معنًى أو سبيلًا، فإن الروائي الفلسطيني عرق ونشف أكثر من مرّة قبل أن يصل إلى بروكسل. تقول فابيين فيرستراتن، مديرة المركز: «حجزنا منذ يوليو الماضي تذكرة طائرة ذهابًا وإيابًا من عمان إلى بروكسل عبر فيينا. أدلى بها أكرم خلال طلب التأشيرة إلى القنصلية البلجيكية بالقدس». تأشيرة متمنِّعة تطلَّبت حشد المزيد من الأدلة والدلائل والوثائق والتصاريح. وفي العاشر من نوفمبر اتَّصل أكرم بالمركز منبِّهًا إلى عدم توصُّله بأيِّ جديدٍ بشأنها. «اتصلنا بالقنصلية وبوزارة الخارجية البلجيكية، تضيف فابيين، لكي يُفْرَج أخيرًا عنها يوم 14 نوفمبر. لكنها تأشيرة ناقصة لكونها ليست تأشيرة شنغن. فهي صالحةٌ فقط لبلجيكا رغم أن بطاقة الطائرة توضِّح أن الرحلة ستكون عبر فيينا». ورغم أن العبور لا يحتاج عادةً إلى تأشيرة، إلّا أنَّ سحر الحبكة لا يكتمل سوى بالتنصُّل من كلِّ القواعد وابتداع قواعد وشروط غير متوقَّعة. يقول الراوي في معرض تعقيباته على مأساة العقرب: «أشعر أنني مخلوق روائي أقع وسط سلسلة من الحبكات المعقّدة». حبكةٌ كلّفت المركز تذكرة سفر جديدة عبر لندن، هذه المرة، تفاديًا للترانزيت عبر فضاء «حرية التنقل الأوروبي» شنغن. في ليلة 15 نوفمبر وصل أكرم، بطل هذه الرحلة/الرواية، إلى عمان لكي يفاجَأ بتطور جديد في الحبكة المركزية لم يخمِّنه صاحب (هواجس الإسكندر). ويُحْسَب لمبدعي الرواية الواقعية عدم لجوئهم إلى حبكات فرعية قد تربك متلقي هذه الرحلة المستحيلة. إذ تمّ، هكذا وببساطة، رفض التحاقه بالطائرة (ربما لم يبلغهم خبر قبول عضوية فلسطين في اليونسكو). نفد صبر بطل الرحلة، هو الذي تدرّب على حواجز الاحتلال، ليتَّصِل ببروكسل مستأذنًا في العودة من حيث أتى. جاء الردّ سريعًا وحاسمًا بحجز تذكرة ثالثة (الثالثة ثابتة) مباشرة من عمان إلى بروكسل. لكن صاحب الحبكة الخفي لا يحبُّ روايات النهاية السعيدة. وتمامًا مثلما قرَّر راوي سيرة العقرب (الذي لم يكن سوى وشمٍ انفلت من رسمه في أسفل ظهرِ سائحةٍ باريسيةٍ التقاها الراوي في صالة رقص كان يعمل بها) تفجيرَ الصالة في الفصل الخامس من الرواية لتعقيد الحبكة، فقد وجد بطلُنا أكرم نفسه يواجه تطوراتٍ جديدةً إمعانًا في التعقيد. ففي مطار عمان سألوه عن رقم بطاقة الائتمان التي دفعت حقّ تذكرة الطائرة... وعن نسخة منها. أي من بطاقة الائتمان (ركّزوا من فضلكم). من حسن حظه أنهم لم يطلبوا منه جرَّ صاحب البطاقة شخصيًّا من أذنه وجلبَه إلى المطار لكي يتحققوا من صدقه وسلامة طويته. اتصل أكرم بالمنظِّمين من جديد، ليذهب الموظف المكلف بالإنتاج إلى المركز على الرابعة والنصف صباحًا ليقوم باللّازم الذي لا لزوم له أصلًا. وهكذا احتل راوي سيرة العقرب مكانه أخيرًا على متن الطائرة (هليلويا). رغم أن هذه الرحلة المباشرة حرمت أكرم مسلم من السفر إلى إيطاليا لحضور برنامج توقيعات للنسخة الإيطالية من روايته، إلّا أن لحظة حوار ممتعة أدارها الدبلوماسي الشاب في سفارة فلسطينببروكسل وأحد نشطاء مؤسسة «جيل فلسطين» ماجد بامية قد تحققت وبامتياز بالمركز الثقافي لي هال دو بروكسل. لحظة حوار شيقة أعلنت عن موهبة روائية أكيدة وعن جيل جديد من الكتاب الفلسطينيين. جيلٌ متخفِّفٌ من البلاغة السياسية، مرتكزٌ على بلاغة السرد في حكايات شخصية تستوعب الهمّ الجماعي دونما مباشرة أو ادِّعاء. في تدخلها على هامش اللقاء قالت ليلى شهيد، سفيرة فلسطينببروكسل، بأن «الواقع يفرض وطأته على الخيال. ربما ليقترح على أكرم مسلم فصولًا جديدةً في رواية قادمة». أكرم الذي يشتغل حاليا على روايته الثالثة (التبس الأمر على اللقلق) الحاصلة على منحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون، ربما لن يلتبس عليه الأمر كثيرًا إذا ما فكّر في تدوين حكاية التأشيرة العسيرة والطائرات العصية ضمن التباسات هذا الطائر المهاجر ذي القوائم الشاهقة، هو البارع في تحويل حكاياته الشخصية وتحويرها في قالب روائي شيّق ذي عمق إنساني بليغ.