كلما حللت وارتحلت تصادفك وجوه ترسم على محياها الفاقة والحاجة بثياب رثة وأياد ممدودة تستجدي بعض الدريهمات..` إنهم المتسولون الذين باتوا يجوبون الشوارع في الإشارات الضوئية وعلى أبواب المساجد وأمام المقاهي وداخل الحافلات والمحطات.. والذين بلغ عددهم حسب الأرقام الرسمية حوالي 8596 متسولة ومتسول. فما هي الأسباب التي تدفع المتسولين نحو الشوارع، وافتعال العاهات والتفنن في اختيار العبارات لاستجداء الدريهمات؟ وهل هم حقا أناس فقراء يحتاجون الدعم؟ وإن كانوا كذلك، لماذا يرفض أغلبهم المساعدات التي تقدمها المراكز والجمعيات، ويفرون منها بحثا عن حرية مذلة تقتات على استجداء المارة؟ وهل يمكن أن نقول إن التسول يعتمد على شبكات تؤطره وتنظم طريقة عمل أصحابه؟ أم إنه لا يعدو أن يكون عملا فرديا محضا لا يخضع لأي تقنين يذكر؟ وإذا كان كذلك، فكيف نفسر حسن توزيع المتسولين وعدم تطاول بعضهم على مناطق عمل البعض الآخر؟ التسول.. وظيفة أم حاجة؟ لم يعد المتسولون في المغرب يبحثون فقط عن ما يسد رمقهم ويسكت جوعهم وجوع أطفالهم، بل باتوا يحترفون هذا النشاط لتوفير مداخيل مهمة، تجعل من أصحابها يمتلكون مبالغ مالية مهمة، ويتوفرون على ممتلكات لا يمتلكها من يكد في سبيل مبلغ يومي بسيط، فليس بالضرورة أن يكون المتسول معدوما، فبعضهم قد امتهن التسول قصد جمع أموال طائلة أكثر بكثير من قوت يومه، بل يصل به الأمر إلى إمكانية توظيف من يعمل لديه، فيستأجر الأطفال والرضع، ويعتني بالإكسسوار اللازم للتسول ويتفنن فيه، بل ويصل به الأمر حد عمل عاهات صناعية قصد استقطاب تعاطف المارة معه والتصدق عليه ببعض المال..كما أن هذه الحرفة لم تعد حكرا على أفراد، بل أظهرت أبحاث منجزة أن عائلات انخرطت في هذا النشاط لجمع المال.. تسول.. تشرد.. إدمان وكرامة تمتهن لا يمكن ذكر التسول بمعزل عن التشرد والإدمان، فهناك حالات من المتسولين الذين يجتمع فيهم التسول والتشرد والإدمان، فالتسول قد يدفع إلى الجريمة، وبكل أشكالها، فهو بداية الطريق للانحراف، وقد قسم الباحثون المتسول إلى ثلاثة أصناف، الصنف الأول هو المتسول البائس الفقير الذي يجوب الشوارع والبيوت والحافلات بحثا عما يسد رمقه ورمق عائلته، وهناك المتسول المحترف الذي يصطنع عاهات مفتعلة من أجل التأثير في القلوب، وغالبا ما يردد «تعاونوا معاي أ الإخوان.. شوفو بعينيكم.. وحنو بقلبكم.. حتى الصحيحة وضو العينين باش نخدم ما عنديش»، أو تسول احترافي بالقاصرين، كأن يتعاقد المتسول مع إحدى العائلات الفقيرة ويأخذ ابنها أو ابنتها يوما كاملا مقابل مائة درهم، ثم هناك نوع أخير وخطير لا تنفع معه مختلف الحلول الممكنة لكونه يجمع بين التسول والإدمان والإجرام، وغالبا ما يكون مهاجرا ويتردد على السجن بشكل دائم، ولا يمتلك عائلة أو بيتا، فيبدأ بالإدمان فالتسول والسرقة فالسجن.. عملية ترصد المتسولين.. في إحدى شوارع البيضاء تقف امرأة في الثلاثين من عمرها، وهي تحمل طفلا رضيعا تستخدمه لطلب مساعدة المارة، وقد عرفنا أنها تستأجر الطفل من جارة لها، وبعد إلحاح كبير تحدثت إلينا قائلة: «قدمت من البادية، وأعيش في حي صفيحي، وليس عندي دخل أعيش به أفضل من التسول، لأنني حتى وإن اشتغلت لن أجني ما يوفره لي التسول، فضلا عن الأكل والملبس.. فالمحسنون يتعاونون معي ومع الطفل». رافقنا سيارة المساعدة الاجتماعية لترصد المتسولين، لنتوقف عند سيدة عجوز تجاوزت الستين، لتقول «أنها لا تمتهن التسول، وإنما تخرج من الجمعة إلى الجمعة بحثا عن بعض الدريهمات تساعد في إعالة عائلتها، خاصة أن أحفادها يعيشون معها، ووالدهم سجين وابنها مختل عقلي، وقالت أنها تقوم بغربلة القمح في السوق، وأن ظروفها العسيرة هي التي تضطرها لهذا.. أما با محمد وهو شيخ مسن، فقد اغرورقت عيناه من الدمع وهو يجيب عن أسئلتنا، وبيده كسرة من الخبز، قال إنه يتسول لأنه ليس له معيل إلا الله وأوجه الخير والأيادي البيضاء، وأكد أن له ابنة واحدة لا يكفي ما تجود عليه به من حين لآخر من أجل المأكل والملبس والنظافة.. وعند سؤالنا له عن عمله هل هو فردي أم هناك جهات تؤطره وتفرض عليه إتاوات، أجاب أنه لم يقابل يوما أحدا فرض عليه تقديم إتاوة.. بل إن عمله هذا ناتج عن الحاجة والفاقة.. لكل متسول تخصص؟! أما حكاية سعيد فتبدو مختلفة بعض الشيء، حيث يقول: أنا لا أمتهن التسول وإنما أقوم فقط بحلول المناسبة الدينية بطرق أبواب المحسنين فيجودون علي بما وجد. أما لطيفة الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها فوجدناها تقترب من أحد المارة متباكية، وهي توحي للجميع أنها تتضور جوعا، لكن الحقيقة أنها لا تطلب طعاما تسد به رمقها، وإنما تريد ثمن الطعام والدواء لأمها المقعدة، وعلى الرغم من أنها تقف في نفس المكان بشكل يومي، إلا أنها ماهرة في اصطياد الزبائن. وفي منطقة أخرى تتجول امرأة خط الدهر على وجهها علامات الكبر، تقضي أكثر وقتها في التجول طلبا للمساعدة، حيث قالت لنا عند سؤالها: لي ثلاثة أبناء، لكنهم تخلوا عني بسبب تحريض زوجاتهم، وأصبحت بلا مصدر دخل بعد وفاة زوجي، وقد لجأت للتسول للعيش، لأنه ليس لي مدخول سواه. أما المعطي فهو اختصاصي في تسول المحطات، حيث يصعد إلى الحافلة متباكيا قائلا بأنه قادم من مدينة بعيدة، و»تقطع» به الحبل هنا، ويحتاج إلى ثمن تذكرة، وغالبا ما يختار المدينة التي تكلف تذكرتها ثمنا مرتفعا، فيقوم الناس بالتعاون معه وجمع ثمن التذكرة له، وحتى يطمئن قلوبهم يطلب من أحدهم أن يرافقه لإحضار التذكرة، ليقوم بعد حين ببيعها، وهكذا دواليك إلى أن ينتهي اليوم وفي جعبته رصيد محترم من بيع ماء الوجه. متسولون يتبادلون الخبرات ويقتسمون المناطق.. مع أن جميع المتسولين أجمعوا أن عملهم فردي، وأنهم لا ينخرطون فيما بينهم في أي تنظيم أو مافيا.. إلا أن واقع الحال يؤكد غير ذلك، فلا أحد يزاحم أحدا في مكانه، وحتى في الحافلات يعملون بانتظام، لأنهم يؤسسون فيما بينهم علاقات عندما يلتقون في الشارع أو مخافر الشرطة أو مراكز المساعدة الاجتماعية، كما أن تعقب المتسولين بسيارات المساعدة الاجتماعية ولد نوعا من التنسيق والتنظيم فيما بينهم، فعندما تظهر لهم مقدمة سيارة المساعدة الاجتماعية تنطلق إشارات الإعلام والتنبيه والصفير والرسائل القصيرة فيما بينهم، بل أصبحوا على علم بتوقيت عمل الدوريات، فلا يخرجون إلا بعد انتهاء أوقات دوامها، كما لا أحد يأخذ مكان أحد، حيث أصبح عملهم أكثر انضباطا وتكاملا.. وتكمن خطورة التسول في تطوره من هذا الشكل التنسيقي إلى وجود شبكات منظمة تعتمد تقنيات مدروسة لاصطياد الضحايا،? ?تتمثل في? ?وجود عقول مدبرة مهمتها تنظيم المتسولين،? ?ووضع خطط توزيعهم على مناطق حساسة؛ كفيلة بضمان العودة بمبالغ? ?مالية مهمة،? ?وخاصة المتسولين المكفوفين فتوزيعهم وتنظيمهم يطرح أكثر من سؤال.. التسول ثقافة لا محدودة التسول آفة اجتماعية خطيرة تهدد كيان الأسرة والمجتمع، وترتبط بأسباب متعددة من جملتها المشاكل الاجتماعية المترتبة على الطلاق أو تخلي الوالدين والإهمال أو غياب أو وفاة الوالدين وسوء المعاملة والتحرش الجنسي بالإضافة إلى امتداد تأثير تدني المستوى الاقتصادي ومستويات التعليم، وكذلك اختفاء القيم الأسرية، ثم عوامل اقتصادية ترتبط بانتشار مدن الصفيح التي أصبحت تفرز مئات من المتسولين، فضلا عن عوامل ثقافية تتمثل في التعود على التسول أو الانتماء إلى عائلة تحترف التسول، إلى جانب ذلك، هناك عامل البطالة وصعوبة الحصول على عمل يقي شر السؤال، كما أن الهجرة القروية نحو المدن رفعت من نسبة المتسولين، فالبدوي عندما يهاجر من القرية إلى المدينة يأتي لإثبات الذات، والعمل من أجل الذهاب كل ثلاثة أشهر لعائلته بما يوفر لهم سبل العيش، وحين يضيع منه العمل، لا يستطيع إخبار العائلة، فيأخذ القدوة السيئة من المتسولين، أو قد تقوده الظروف لمرافقة أحد المتسولين، فيلاحظ أنه يجني المال بدون بذل جهد يذكر فيبدأ مشوار التسول. مشوار التسول ينطلق مشوار المتسول قبل الاحتراف، بتسول الأكل والملبس والمبيت أينما وجد، ثم إن كان محظوظا يجد له رفيقا في الدرب، ليريه طريقة العمل، وإن لم يجده فإنه يبدأ في التقليد الأعمى مركزا على مختلف المناطق الأكثر رواجا، كالإشارات الضوئية والشوارع الكبرى والمساجد والمحطات.. ثم يبدأ عمله يأخذ منحا آخر أكثر احترافية.. وتختلف أوضاع وطرق التسول، ورأسمالها بسيط يكون أحيانا عبارة عن عاهة حقيقية أومفتعلة كرجل أو يد مقطوعة أو عين مقلوعة أو ما شابه ذلك، يرافق هذا ارتداء المتسول زي العمل الرسمي، والذي يكون عادة بلغة رثة عتيقة مفتوحة من الأمام، بحيث يخرج منها على الأقل عشرة من أصابع قدميه، طبعا هذا إن لم يكن يفضل السير حافيا، وجلابة مهترئة يكون لونها مائل للبني الداكن مع وجود بقع متفرقة هنا وهناك، أو بعض الملابس البالية المتسخة ليضفي على نفسه جوا من الحداثة، وقد يستخدم بعض المتسولين الأطفال ليستدروا بهم عطف الناس، وبعض هؤلاء الأطفال لا يمتون للمتسول بأية صلة قرابية، ولكنهم يستأجرون من أهاليهم الفقراء الذين يمنعهم الحياء من التسول، وهناك من المتسولين من يستخدم ورقة صغيرة إما مرقونة أو مكتوبة بخط اليد يتسول بها في الحافلات العمومية وعلى أبواب المساجد، تضم ما يلي: «أبي مقعد وأمي مريضة ونكتري بيتا ب 1000درهم، وليس لعائلتي معين، فتعاونوا معي والله لا يضيع أجر المحسنين». حلول ونقط للتغير رغم دور المركز الاجتماعي الذي يسهر على جمع المتسولين بواسطة وحدات المساعدة الاجتماعية، وتقديم المأوى والمسكن والملبس لهم، ورغم كل ما قامت به المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من خطط ومشاريع لمحاربة التسول، كإنشاء ورشات للنجارة والحدادة والخياطة والحلاقة وتسويق منتجاتهم لمساعدتهم على الاندماج في سوق الشغل والتخلص من مد اليد.. وتخصيص مشاريع للتمويل، كالعربات الصغيرة لبيع الخضر والفواكه، وتخصيص 4 مليون درهم بالتنسيق مع 36 جمعية لهذا الغرض، إلا أن غالبية المتسولين، الذين تقبض عليهم سيارات المساعدة الاجتماعية وتأتي بهم للمركز قصد المساعدة، يرفضون المساعدة ويفرون من المركز ليكملوا عملهم كمتسولين.. لتبقى هذه الظاهرة تشكل تحديا كبيرا للمجتمع ولنظامه واستقراره العام، ويبقى أنجع علاج لهذه الظاهرة هو تطبيق العقوبات الحبسية على ممتهني التسول ومصادرة أموال المتسولين التي قد تصل في بعض الأحيان إلى عشرات آلاف الدراهم..